النص الشعري بوصفه بنية فنية استحوذت على مبناه ومعناه واثرت فيه التطورات الحضارية في ظل تيار الحداثة بحكم التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية.. فكانت القصيدة الحديثة مركبا تتفاعل فيه المؤثرات الثقافية الخارجية بحكم عوامل الترجمة.. والداخلة التي انحصرت في المكونات التراثية.. فصار شفرة يحاول المستهلك (المتلقي) تفكيكها والكشف عما خلف ألفاظها الرامزة وصورها المشهدية والاعلان عن مقاصد منتجها (الشاعر).. وإبعادها وإزاحة ستائر الغموض عن جسدها بقراءة تحليلية نافذة في أغواره وسابحة في عوالمه معنى ومبنى.. ومقصدية منتجة لنص موازٍ له..
وباستحضار وتفكيك بعض عوالم المجموعة الشعرية (مائلات من ثقل دمعة) التي نسجت عوالها النصية المقطعية أنامل الشاعرة ابتهال بليبل واسهم الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق بنشرها وانتشارها/ 2020.. كونها اعتمدت معايير قصيدة النثر المتمثلة في المقطعية (الكتلية) بانفصال المقطع الاستهلالي عما يليه صورة وصياغة، وكذلك بقية المقاطع التي بمجموعها تصب في مجرى واحد للماهية الشعرية لتشكل وحدة موضوعية تعتمد التكثيف الصوري واللغوي.. بتوظيف آليّة الاستعارة والانزياح.. ابتداء من العنوان الايقونة السيميائية الدالة.. المتشكلة من أربع فونيمات اعتلت لوحة رامزة بجملتها الاسمية التي لا تتوقف عند حدود معانيها ودلالاتها بل تتخطاها الى توليد دلالات مضافة حسب السياق.. كونه نصا موازيا مكثفا بلغته الايحائية الجاذبة والفاتحة لمغاليق النص لانه جزءٌ من كلٍّ، مشكلاً وحدة متجانسة الدلالات مع وحدة النص..
(بعينين مغرورقتين بالدخان والتراب...يحفرون/ ببداهة خريف مصفر الخدين... ما يؤلمني في عمق هذه المدينة../ الاجساد المطمورة ذاتها التي تقودك الى نساء/ يتمرن خلف جدران البيوت التي خلفها انحدرنا/ صراخ لم يستمر...خشية ان نوقظ الذين/ اخذتهم المجزرة منا) /ص8..
فالمنتجة (الشاعرة) تعتمد البناء المقطعي (الكتلي) بانسجام فني بينها رغم تفرد كل مقطع برؤيته ورؤاه.. لكنها تأتلف على المستوى الدلالي برؤى متآلفة تشكل توحدا عضويا على المستوى المقطعي الكاشف عن مهارة الشاعرة اللغوية مع صبغة جمالية تهيمن على النسق الشكلي للنص.. فضلا عن الترسيم الجسدي والتصوير الحسي الغريزي للمرأة.. مع إيقاع بصري وانفتاح مكثف دلاليا والتي تكشف عنه المنتجة بأسلوب درامي مؤنسن للأشياء..
أنت الدائرة حيث يتعرج الجلد حول الحلمة الداكنة/ الدائرة أول قمر اسمر يبزغ في أفق الطفل/ص7
فالشاعرة تعتمد الوصف الحسي بعيدا عن الاستطراد عبر حركة تعكس إحساسا عميقا مثيرا لإيقاع الدهشة بانفتاح تأملي عميق للصور الجمالية المستفزة.. القريبة في مداليلها وأبعادها ومثيراتها النفسية..
(بينما أنا أتغير/ بتلقائية سائل ينساب في كل اتجاه/ لأؤكد ان الشق الصغير تحت العين مجرد/ نافذة مفتوحة على مدينة لا تعرفني/ سأغلقها حتما اذا ما صارت نسبة التلوث أقل)/ ص51
فالشاعرة (المنتجة) تتابع بمساراتها التأملية للذات ومدى تقديسها للجسد بلغة بعيدة عن الغموض والضبابية بتوظيف الأشياء الرامزة (الشق الصغير تحت العين مجرد نافذة مفتوحة على المدينة) دلالة عناق الفضاء المكاني المغلق والمفتوح.. و (مساحيق التجميل تلك الاقنعة الرخيصة) دلالة تغيير الوجود الانساني الحرباوي.. فضلا عن انفتاحها الشعوري المنساب بألفاظه كنبض جمالي دافق.. فضلا عن اعتمادها حيز التنامي التصويري لحركة الجسد برؤى تكثيفية.. ومشاهد إيحائية للكشف عن مثيراته الجمالية باقتصاد لغوي واختزال تركيبي معبر عن رؤية جدلية للوجود والاشياء.. عبر صور موسومة بمشاهد رومانسية كاشفة من الحالة الانسانية وعمقها النفسي.
(هكذا أحشر في ساعة متأخرة من الندم الفساتين والقمصان/ وأعيدها لأعماق الحقائب مترقبة/ تقلبات الفصول التي دربتني في الحقيقة على الانتظار بصمت/ أنا بين ثيابي العمياء وسط الكائنات الغامضة).
فالمنتجة (الشاعرة) تعتمد البوح والاستطراد الوصفي مع انفتاح على رؤية مشحونة بالحلول في الآخر عبر درامية تؤسس لنوع من السرد الشعري الذي يُوائم بين العالم الخارجي برموزه الشخصانية والزمكانية التي تشكل إطار تحركها وتداعياتها التي تنبثق من مرئيات وموجودات تحيطها.. وبين العالم الداخلي الضاج بالأسئلة والحوارات بوعي ذاتي. وبذلك قدمت المنتجة نصوصاً تفرّدت بقدرتها الاستيعابية لتعكس رؤيتها لذاتها وقضاياها الاجتماعية الانسانية بمصداقية منطلقة من أنوثتها المفعمة بالحياة.. وهي تحفز بصورها الدينامية عبر جمالية محققة للمتعة الروحية والمنفعة الفكرية.. مع توظيف تقنيات فنية وأسلوبية أضفت على النص طيفا جماليا... كالتنقيط (دلالة الحذف).. والاضمار والتكرار الذي اضفى موسقة مضافة وانسنة الجمادات وتفعيلها والبناء النصي المؤسطر للجمال المنطلق من الجسد الانثوي والطبيعة المقترنة به...