هل نقول: خاب السعي؟

ثقافة 2020/10/17
...

ياسين طه حافظ
 
لستُ في حديث حربي ولا عن مواجهة مسلحة في مكان. حديثي اليوم، وكل أحاديثي السابقة واللاحقة بعون الله، عن الإنسان، بتخصيص اكثر عن الدوافع التي تكسر فرحه وتضيّع عنه جمال الحياة. الحياة هي الحياة في أسسها ومقوماتها الأولى. تختلف أشكالها وربما مسمياتها لكن يبقى على الإنسان أن ينال طعامه وأن يأمن وأن يفكر ويعمل. المنغصات أو مدمرات المعنى، هي تلك الأسباب الآيلة به إلى الظلم، فاعلاً أو مفعولاً به، وإلى الاضطهاد والزيف في العلاقات الاجتماعية ومصادرة الحرية فهو إما خلف الجدران أو خلف القضبان، وفي الحالين خاضع مستلب.
ولأني معني بالكتابة الأدبية، فأنا أرى أهم الروايات وأهم القصائد لا تخرج عن هذا القصد ولا تحيد عن كشف هذه الأهداف والتصدي لها. وإلا فهل من المعقول أن يكون هدف كاتب أن يصف البحر للناس القاطنين في مدن قريبة من البحار؟ وهل يكون هدفه وصف الطبيعة والزرع لناس يعرفون ذلك وعاشوا أعمارهم قريبين من الحقول أو الغابات؟ أي كاتب مهم هو كاتب أخلاقي بالدرجة الأولى، هو كاشف عن عذاب الإنسان وكدر عيشه من الفقر أو العجز أو السخط المرّ أو اليأس ومصادرة الكرامة وتحمّل الاعتداء والظلم مما لا يستطيع دائماً رده. كل الكتاب الذين نالوا احترام واهتمام الناس، شغلتهم دراما الإنسان على الأرض وجذورها الدفينة في التاريخ والوضع البشري. نعم، وعلى التخصيص، قد يكون وضعهم الخاص أو وضع شعوبهم وبلدانهم، وإذا اتسع الأفق، شمل الإنسان حيث يكون على الكوكب.
هنا يتوجب أن نقف عند نقطة، عند هذه النقطة الأخيرة، التي أهميتها وسعتها وديمومتها، أدت لظهور مدرسة تقصر كتاباتها على الظواهر بمباشرة أفقدت الكتابة قدرتها على التجاوز، لكن أكسبتها تقبلاً بصرياً وفوتوغرافية أكثر. على أية حال، مدارس أخرى تلافت هذا وأخرى جاءت لتعدل أو تطور من هذه. وهذا الكلام مهما طال، لا يخرجنا عن موضوعنا وهو الإنسان في أحواله الصعبة، في محنته، في خضوعه وخوفه.
واحدٌ من أسباب الاختلاف بين المدارس هو مدى ابتعادها عن الوضع الإنساني العام من الآن إلى الما بعد.
شُغِل الأدب وما يزال مهتما بهذه الأحوال، ما يزال يتمنى الأفضل في اتجاهين: تطوير الأفكار وتوسيع الرؤية في جانب وتطوير الأسلوب لأن يمتلك قدرات كشف ودلالة أكثر وأبعد. هو إذن إسهام جاد تماماً في إنقاذ العالم!
على مبعدة من الأدباء والكتاب المشاركة في ساحة واحدة، كان مفكرون اخلاقيون وأصحاب نظريات ومعنيون بالدرس الاجتماعي ورجال أخيار أوتوا الحكمة، يعيدون النظر في الكتب المدرسية ويعيدون النظر فيما قرؤوا لعلهم يجدون صوتاً أقوى وأكثر فعلاً في الكشف ولاستنتاج طريق يسير فيه الإنسان مطمئناً ومكتفياً لا كدر يؤذيه.
يمكنني القول إن كل الأديان والمعتقدات بما فيها الوثنية كانت ترى أن الحلول موجودة وأن بإمكان الفرد أن يتوصل إليها ويستقر.
لكننا نعلم أن كل تلك القناعات والرؤى العظيمة انحسرت وظل الناس على ما هم عليه. ومع أن الكتب المقدسة وكتب الإيمان وكتب الأخلاق متوافرة وبين أيديهم. لكن الشرور أيضاً بقيت في حوزتهم وظلت الرداءات والظلم ومصادرة كرامة الإنسان وإذلال روحه واستغلاله، هذه ما فارقت الأرض يوماً!
السؤال الآن: لماذا لم يحقق عقلانيو القرن السابع عشر ولا تجريبيو الثامن عشر ولا التفكير التقدمي للقرن التاسع عشر ولا تزاحم النظريات في العشرين، نجاحاً في كشف طريق لاستقرار الحياة وسلامتها، ولا هيؤوا أسلوب حياة وسلوكا كريماً في العيش والعمل وتبادل العواطف والمصالح؟ بالتأكيد.. لأن تلكم الأفكار والرؤى لم تكن كافية لكل شيء ولم تكن مقنعة للجميع. فهل بعد هذا كله ندرك العجز ونخجل من الإقرار به؟.
السؤال الآخر. أما استطاع الإنسان أن يؤشر على مكدراته ومؤذياته عبر التاريخ؟ لماذا إذاً لم ينفعه حل أو علاج؟ هل غاب التشخيص أم هو الإنسان أيضاً يلتذ بخيانة نفسه أحياناً فلا يريد كل الشرور تزول؟، لا إجابة مقنعة وإن كاشَفَنا القرنُ التاسع عشر بالقول «لا حقائق ثابتة ولا افتراضات. ولكنه التطور التاريخي وأنه تاريخ الإنسان وهو يتقدم عبر صراعات دائمة بين الواقع والأفكار وأن الإنسان يحمل أسلحته القديمة معه لأنه بحاجة إليها وحتى يجد أسلحة جديدة ...».
يحمل أسلحته معه؟ هنا الأسف إذاً، يمكن القول يحمل ظلمه واستغلاله وشراساته وتدميره، وحتى يجد بدائل جديدة؟ والبدائل الجديدة تظل إعادة صنع لتلك التي يمتلكها او تطويرها! هل نقول: خاب المسعى ونضع نقطة ونوقف الكلام؟.