100 مقالة صباحيَّة بالحبر الأبيض

ثقافة 2020/10/17
...

  د. مسلم عبد الأمير 
 
في النصف الأول من ستينات القرن الماضي، اقتحم قلم متواضع لكاتب مبتدئ اسمه حسن العاني، عالم النشر، وكان أقرب مايكون انتماء الى الخواطر الرومانسية ولغة الادب، أبعد مايكون عن فنون الصحافة، ومع نهاية العقد الستيني وبداية العقد السبعيني، بدأ– ولو على مهل– يسوق نفسه (كاتب عمود) صحفياً، هنا وهناك، وربما لم ينل مايكفي من لفت النظر الى منجزه قبل ان يؤكد حضوره القوي والمفاجئ عبر عموده اليومي او «زاويته» التي حملت عنوان (ضربة جزاء) في جريدة العراق عام 1981 على الأرجح والتي استمرت اكثر من عشر سنوات، وكنت في حينها انظر اليها من وجهة نظر شخصية على انها (صاحبة الفضل) في نقل العاني من الظل الى الضوء، والارتقاء به حقاً الى واجهة الصحافة العراقية، وكتاب الدرجة الأولى في فن 
(العمود الصحفي) مثلما كانت تلك (الضربة) نقطة انطلاقه نحو افاق ارحب في فنون الصحافة، وقد نشرت في ذلك الحين مقالة عام 1985 تناولت فيها تطور الصحافة الساخرة في العراق ..
ليس هناك مايدعوني الى الاعتراض على ان الكاتب– كما ورد في إحدى اشاراته– قد تخطى حاجز العشرة آلاف مقالة، ولكن هناك مايدعوني الى التأكيد سلفاً بأن (المنهج) الذي تبناه منذ كتاباته المبكرة، هو المنهج ذاته الذي رافق رحلته الطويلة وأعني به الكوميديا السوداء القائمة على السخرية... منهج تعرفنا عليه قبل 2003 وبعد هذا التاريخ، سواء في مطبوعات القطاع العام أم الخاص، او في الصحافة العراقية أم العربية.. اذا افترضنا أن العاني كاتب مقروء، فالسبب لايعود فقط الى المنهج الذي اعتمده، لأنه ليس مبتكر الكوميديا السوداء او الذي انفرد بها، بل قبل ذلك– وهو الأهم في تقديري– تبنيه عنصر (التشويق)، وأريد به عملية جذب القارئ وشده الى المقالة عبر العديد من عناصر الجذب والتشويق وفي مقدمتها (الحكاية) التي أغناها بخلفيته الأدبية كونه قاصاً وروائياً، ولذلك اشتغل على الخيال الحكائي اشتغالاً كبيراً، بمساحات مفتوحة ومن دون حدود، وعزّز في الوقت نفسه جماليات الحكاية واغراءاتها بسيادة واضحة لروح الدعابة والنقد الساخر، مع ابتعاد واضح عن (الجدية) والمعمار اللغوي الفخم والصياغات الأدبية والبلاغية، لأنها تتعارض مع (روح الدعابة والنقد الساخر)... إن كل شيء قائم على السلاسة ووضوح الفكرة التي تتناغم مع أسلوب الحكاية... العاني نجح في الاقتراب كثيراً من (القارئ العام)، أي الذي انهى مرحلة الدراسة الابتدائية في مراكز محو الأمية، والذي يتأبط شهادة الدكتوراه من جامعة بغداد على حد سواء!! ولولا الخشية لقلتُ إن المئة مقالة صباحية بانتظار الملك جميعها قد أفادت من الحكاية وعناصر التشويق الأخرى، وليس من الصعب، الاستشهاد على سبيل المثال بهذه المقالات: حسبي الله، فقدان صحفي، مستر مايكل، العجوز والتقاعد، مذكرات وزير، أحلى قبلة، جمال الديمقراطية...الخ 
تحت هذه المكونات (الحكاية– الخيال– الدعابة– النقد الساخر) عالج الكاتب الكثير من عوائق النشر والمنع واشكاليات الخطوط الحمر باللجوء الى (الرمز) المكشوف أحياناً والخفي أحياناً أخرى، وهذان النوعان كلاهما وقفا جدار صدٍّ قوي أمام المساءلات القانونية، والرمز كما هو معروف من أدوات الرواية والقصة التي يستطيع الاديب اللجوء إليها، وهذا يعني ان الكاتب قد استعان مرة أخرى بمعطيات انتمائه الادبي، والقارئ لايمكن ان يمر على العديد من المقالات من دون ان يستوقفه التساؤل عن دلالة المضمون وما يخفي تحت حبره الأبيض من اسرار.. ومن ثم يقتضي الامر اكثر من تأمل مثلما يحتمل اكثر من تفسير، ان اول مقالة تضمنها الكتاب – الذي يقع في 238 صفحة، من مطبوعات شبكة الاعلام العراقي – وهي (تكنوقراط رهن الإشارة)، تعد واحدة من أوضح الصور الرمزية، لكونها أبعد ماتكون عن (ظاهرها) الذي يتحدث عن مشروع يقترحه الكاتب ساخراً لحل مشكلة العنوسة، لأن (باطنها) أشبه برسالة سرية مشفرة، 
موجهة الى (المسؤول الكبير) أياً كان عنوانه لكي يتحلّى بالشفافية والموضوعية وأخلاقيات المسؤولية ويغادر موقعه اذا وجد نفسه غير مؤهل لتحمل تلك المسؤولية، تاركاً المجال للطاقات المؤهلة لتوالي المنصب.. ومع ذلك قد لايتطابق فهمي هذا مع ماذهب اليه الكاتب، او مايمكن 
ان يستنتجه قارئ آخر... ولاتخرج مقالات (الطبيب الأجنبي– رجل بلا حدود – بانتظار الملك – اخر الأزواج– الليلة التاسعة – الدولة الثانية – فخامة الرئيس) وغيرها، عن وجود رمزٍ بأسلوبٍ ما قد لايتفق القراء على مقاصده، أي أن هناك تفاوتاً في تفسيره بين قارئ وقارئ آخر.. ولعل اكثر ما كان يدهشني هو (ازدواج شخصية) العاني على المستوى الكتابي وليس النفسي او العقلي، فقد تمكن باقتدار غريب من الفصل التام بين لغته الأدبية... ولغته الصحفية!! ثمة أمر استرعى انتباهي وأنا اقرأ الكتاب للمرة الثانية، وهو أن الكاتب كان في الغالب هو بطل حكاياته، بغض النظر عن كون ذلك البطل ذكياً او بليداً، شجاعاً او جباناً، ايجابياً او سلبياً، 
واهمية البطولة هنا على وفق افتراضي وفهمي، تكمن في كونها محاولة لإيهام المتلقي، او إقناعه بأن النص الذي بين يديه قائم على احداث واقعية حصلت فعلاً، انها نوع من إضفاء مصداقية عالية على الوقائع.. وكلما نجح الكاتب في بناء حكايته بناء محكماً وارتقى بها من 
(شكوك الفبركة) الى (يقين الحقيقة)، ورفع القارئ الى التصديق، فهذا يعني انه قد رفع مناسيب التشويق والتعاطي مع النص.. 
واعتقد ان هذا الرجل الذي ما زالت طفولته تعشق الملك وذاكرته تتفتح على ايامه، قد نجح في رفع هذه المناسيب الى أعلى حد يطمح اليه 
الكاتب.