(يسجّل النسيان بطريقةٍ مقلوبةٍ ما تجهد الكتابة في أن تضعه على وجهه. النسيان مستمرٌ. والكتابة متقطعة. )
برنار نويل
نسيتُ نفسي على طاولةِ مكتبتي / ومضيتُ/ وحين فتحتُ خطوتي في الطريق/ اكتشفتُ أني لا شيء غير ظلِ نصٍ/ أراهُ يمشي أمامي بمشقةٍ/ ويصافحُ الناس كأنه أنا.
يضيء لنا الشاعر عدنان الصائغ في هذا النص الشعري (نص) الذي ينزل إلى الطريق بلا علامات تنقيط، لا توجد فيه فواصل ولا نقاط، لكننا نجد أبعاده ودلالاته تسير بمشقة بين الناس لتصافحهم.
هل الشاعر القويّ والحقيقي هو من يتطابق لديه - أنا النص، مع أناه ككاتب - وهل بالضرورة أن تتطابق تجربته في الحياة مع تجربته الشعرية؟، عدنان الصائغ من الشعراء الذين كتبوا بحساسية عالية عن الحب والحرب، عن الموت والحياة، عن البلاد والمنفى، عن المودة والكراهية، عن القبول والرفض، وبين هذا وذاك يسير هو ونصه بمشقة، ولا يريد سوى أن نقرأ نصوصه بموضوعية وعمق.
هنا نجد -أنا النص- هو الذي يتحركُ في الحياة شاخصاً وحقيقياً، يظهر في المكان الذي هو فيه، ليبلغ دفء الاحتضان أو برودة الطرد، -أنا النص- بعد ظهوره يصبح متحرراً من تاريخ وسلطة كاتبه.
فنرى (أنا الشاعر) غائبة في النص حيث يلغي ذاته، ليترك الطريق لأنا النص المكتوب، يتجلّى وينعكس في مرآة العالم، من هنا يكون نسيان الذات على الطاولة نفياً لها داخل النص، النسيان الذي يحركُ طاقة الكتابة فيه، بهذا يصبح النسيان - خلقاً مستمراً للنصوص، ولكن الذاكرة لم تترك الشاعر يسير متوهماً نسيان حقيقته، بل تعيده إلى سيرته الطبيعية وسيره بمشقة بين الناس.
سؤالنا هنا: هل إرادة الكتابة هي التي تحرك الشاعر في هذا الوجود الغامض، وسؤال آخر هو: إذا كانت هنالك إرادة الكتابة هي الفاعلة، فلماذا لا يتطابق الشاعر مع نصه وينسجم فعلاً وقولاً، لماذا ينشطر الشاعر نصفين، يفكر بـ (لا) ويقول (نعم) أو يفكر بـ (نعم) ويقول (لا) هذا ما يجعل الذات العربية ذاتًا مقموعة ومستلبة تحاصرها السلطات المتعددة من كل صوب، فتحصل العمليات القيصرية لتوليد النصوص قصراً، ويحصل الحذف والتشذيب والقطع والقمع.
إن وضع الشاعر الصائغ في النص يذكرنا بوضع الشاعر «ريلكه» الذي يصوره لنا في قصيدته (الليلة العظيمة) إذ ينبئنا أنه مغلق ووحيد مع ذاته وقصيدته (وحتى الأشياء الأقرب لم تقم بأدنى محاولة لتصير معقولة)، ينبئنا انه هو القصيدة بحد ذاتها، تُــقرأ وتغلق، ولكن شتان بين الاثنين، ريلكه - لاؤه لا-، وعدنان الصائغ – لاؤه نعم -.
الشاعر بزمنه وحياته سوف يغادرنا، ولا يبقى منه سوى النصوص التي نحتكم إليها، نتداولها ونفتح معها افقاً أعمق وأوسع لنقرأ رسالته، ونكمل ما أرسله إلينا، هكذا تفعل الأجيال المقبلة مع النصوص التي هي تاريخ الشاعر وسيرته.
ما نلاحظه في هذا النص الذي يتكون من خمس جمل بثنائيتين.. الثنائية الأولى: (نسيت نفسي على طاولة مكتبتي ومضيت، وحين فتحت خطوتي في الطريق) يستعمل الشاعر الفعل الماضي ثلاث مرات: نسيت، مضيت، فتحت. النسيان، والعودة للزمن الماضي، والانفتاح على الحياة.
نرى أنا الكاتب تمحى بين الكلمات وتغيب متماهية مع حياة النص، الأنا تمحو ذاتها لتكتبها على شكل نص يسير بين الطرقات بمشقة، الكاتب يغيب ويختفي في فضاء النص بالرغم من وجوده عبر ضمير الفاعل في الأفعال الماضية الموجودة في الثنائية الأولى، وهي تتمحور في النسيان الذي يخلق الأنا من جديد، وربما لن يتم ذلك بسهولة لأن أنا الكاتب منشطرة بوضوح.
في الثنائية الثانية التي تتكون من ثلاث جمل: (اكتشفت أني لا شيء غير ظل نص. أراه يمشي أمامي بمشقة. ويصافح الناس كأنه أنا) يستعمل الشاعر الفعل الماضي – مرّة واحدة – اكتشف وهنا تتمركز بؤرة النص، إذ تكون أناه أمام حقيقة مرعبة، هي أنها لا شيء، غير ظل لهذا النص الذي يعاني من أجل الوصول الذي لا يصل، وقد كشف لنا، عن سيره بمشقة، ومصافحة الناس، وربما لم يكترث أحدٌ لمصافحة النص، في هذه الجملة تكمن أيضاً معاناة الشاعر والنص في محاولة الاقتراب من المتلقي الغائب.
بعد هذا الفعل الجذري في النص يستخدم الشاعر الفعل المضارع ثلاث مرات: (أراه، يمشي، ويصافح) وفي نوع من القراءة داخل النص ترى الأنا الكاتبة أنها لا تساوي نصها، إنما هي ظل لهذا النص، هنا ينتقل فعل الماضي بلحظته المنسية إلى الزمن الحاضر، كاختبار وجداني وشعري، ويتحوّل الى الأفعال المضارعة الفاعلة في الحياة والمتفاعلة مع الناس، إذ نرى أفعالاً مثل: أرى، يمشي، يصافح. الرؤية والمشي والمصافحة، أعمال طبيعية وحقيقية تجعل من أنا النص قارئاً للآخرين ومتحداً بهم بصدق وقوة، لا النص الذي ينتظر القراءة كلغة متحررة ومبتعدة عن سلطة الشاعر. النص المكتوب بزمنه الثري أطول عمراً وأعمق بقاءً من عمر الشاعر وبقائه، هذا ما نراه في ثنايا النص الذي يمشي بمشقة بين القرّاء وتأويلاتهم المختلفة.
الزمن الحاضر في النص، هو زمن لأنا النص الباقية المتصلة في لانهائية الحياة الموجودة. وزمن الشاعر، زمن الزوال والمغادرة والغياب، هكذا يحاول الشاعر من دون أن يعمق توقيعه وأسلوبه وتفرده، ودون أن يصافح العالم ليخلق ثنائيته الشخصية التي تغيب في يوم ما - الشاعر/ العالم. لتبقى ثنائية، النص/العالم.
وبين النص وكاتبه تبقى المرآة العاكسة تظهر لنا عمق التطابق أو سطوحه، لهذا الشاعر يحاول في كتابته ان يغلق الهوة بينه وبين نصه، وهو يتحدث عن معناه، ومعنى النص كظلٍّ له.
فيبقى يتأرجح بين المحو والكتابة. حتى تحضر لحظة الحرية المتعالية، التي تنقذ الشاعر والنص معاً.
في هذه اللحظة تضيق المسافة بين النص والذات، وبين العالم والذات، والعالم والنص، إذ يحصل التماهي بين الذات، والنص، والعالم، وفيها يجوز للشاعر أن يعلن أنه النص.
والعكس صحيح أيضاً، هنا في هذا التحقق تحصل سعادة التماثل للشفاء من لوعة الاغتراب والغياب.