منذ الرُّقُم الطينيَّة والحاجة الى التدوين..كربلاء تمتهن الطباعة

ريبورتاج 2020/10/19
...

  علي لفتة
منذ أن وعى الإنسان وجوده على الكرة الأرضية، احتاج الى ما يحفظ له ذاكرته، مثلما احتاج الى وسيلة لنقل الكلام وتنضيده على شكل حروف او رسومات او اية إشارة أخرى، فالإنسان الاول مهما كانت تسميته بحسب العلوم والحضارات العالمية والمفكرين والباحثين والمهتمين بالأسطورة، فإنه كان المفتتح الاول له، كي يضمن له الديمومة في الحياة، مثلما يضمن له التذكر بما كان، مثلما يبحث عن لحظة تبويب خاصة لما يريد ان يوصله الى الآخر، ولأن الكتابة على الرقيم الطيني او اوراق القصب، تعد اولى العلامات على فن التراسل والتدوين، فإنها تعد أولى الماكنات الطباعية التي توجه مجهود عقل الإنسان.
لذلك لم تكن الطباعة الحديثة التي بدأت بالحجرية لتصل الى ما وصلت إليه الآن، غائبة عن الحضارة العراقية، فهذا الفن الكبير والعريق يعد من آليات الفعل الابداعي في التصميم الطباعي، لا تمتد جذوره الى الثورة الصناعية في اوروبا كما يتصور
البعض.
 
ما قبل التاريخ
يؤكد الباحث والمؤرشف العراقي الكربلائي صاحب الشريفي "ان فن الطباعة عرف في بلاد وادي الرافدين منذ سنة 5000 ق م، حيث ظهور الأختام الاسطوانية، التي كانت تعد من اولى البدايات من فن الطباعة للنسخ".
ويضيف الشريفي "ان هذا الفن كان يستخدم الحروف المعدنية المتفرقة، وقد استخدمت ايضاً الأختام الطينية المنقوشة بتصميم بسيط، وكانت تطبع على الأبواب المخصّصة لحيازة وحفظ 
السلع".
ويشير ايضا الى انه "وجدت قطع طينية بأشكال مختلفة كنقوش الحيوانات او اسماء ملوكهم، وهذه القطع توضح عملية التدوين والحفظ والتعاملات، مثلما تعد مسلّة حمورابي، إذا ما عدّت ايضا كنوع من الطباعة التي وثقت أولى القوانين والدساتير في العالم، عبر عصوره المختلفة، مثلما كشفت الرقيمات انها اسطوانات اعلانية، أو حالات بيع وشراء او حتى عمل دعائي ونشر مخطوطات، وهو ما تكشف عنه أسطورة ملحمة جلجامش
مثلا".
 يؤكد الباحث "ان الأمر ظلّ من تلك الحقب الموغلة بالتاريخ الى يومنا هذا في حالة تطوّر يعرفها الانسان الحالي، لكنه ربما تغيب عنه فصول التاريخ الماضي في القرنين الماضيين على الاقل في القرن العشرين، باعتبار أن هذا الامر قد يكون تاريخيا بحتا وهو مثبت في كتب الأولين والباحثين والآثاريين العرب والاجانب وبالتأكيد
العراقيين". 
 
القرن التاسع عشر
يشير الشريفي الى ان "أول من عرف فن المطبعي والمنهجي في العراق كان مع بداية النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، ويذكر عن الباحث التراثي عبد الله رمضان العيادة قوله "إن أول مطبعة حجرية عرفها العراق هي (مطبعة دار السلام) في مدينة الكاظمية، وقد طبع بها كتاب (دومة الزوراء في تاريخ وقائع الزوراء)، لمؤلفه الشيخ رسول أفندي الكركولي، وقام بطبعه ميرزا محمد باقر التفليسي سنة (1821م)".
لكن الشريفي "يقول إن هناك ما يشير ان تاريخ الطباعة في العراق يرجع الى أقدم من هذا التاريخ، وذلك لوجود دراسات أولية تدل على وجود مطبعة حجرية في بغداد عام (1816م) وكانت تطبع صحيفة (جورنال العراق)، التي أسسها داود باشا الكرجي وزير بغداد، ولذا فان الفن الطباعي لم يكن منقطعا عن تاريخيته او تواصله، فالمعروف عن العراقي انه يحب القراءة، ومن ثم ان عملية الطباعة كانت واحدة من أعمال السلطات، سواء ما كانت منها عثمانية او انكليزية، لأنهم أدركوا ان العراقي ميال الى الثقافة والوعي، ولهذا فإنه كلما توغل الباحثون والمنقبون في أمور التاريخ، ربما سيجدون تاريخها أبعد من هذا في مقابلة هذا الفن 
وتطوراته".
 
جذر الفن في كربلاء
لم تكن كربلاء واحدة من المدن المقدسة فحسب، بل من المدن التي لها دور مهم في نشر الوعي الثقافي ايضا، بوصفها كانت مقر المرجعيات الدينية وتأسيساتها الأولية، وايضا للمنطلق الفكري، سواء منه الديني أو الثقافي، فمن بين قصباتها تخرج العلماء ورجال الدين، وكذلك الشعراء والباحثون، وكل رجالات الفن والثقافة".
إذ يذكر الشريفي ما كتبه الباحث عدنان فاضل الربيعي في مقال له والمنشور في مجلة صدى كربلاء، ذكر فيه بأن "مدينة كربلاء تعد من المدن العراقية السباقة في فن الطباعة والنشر، ويرجع تاريخها الى سنة 1856م في عهد الوالي محمد رشاد باشا والي بغداد، وقد جلبت في وقتها أول مطبعة حجرية الى كربلاء، والتي جلبها السيد ميرزا عباس التبريزي وهو إيراني الجنسية".
ويضيف "ان الربيعي ذكر ان اول كتاب بوشر بطبعه هو كتاب (المقامات)، وكان يحتوي على 143 صفحة، ثم تلاه طبع كتاب آخر تحت (عنوان البهجة المرضية في شرح الألفية)، ومؤلفه جلال الدين السيوطي، ثم طبع كتاب (خلاصة الاخبار)، لمؤلفه السيد محمد مهدي وهو يخص الأئمة الأطهار، فضلا عن طبع منشورات وأدعية، وبعض الرسائل العملية لبعض 
العلماء".
 
مطابع حجريَّة
ويمضي الشريفي في قوله "إنه في سنة 1914م دخلت الى كربلاء مطبعة حجرية أخرى، لصاحبها محمد الظفيري، وقد طبعت عدة كتب ومنها كتاب (تباشير المحرومين) للشيخ محمد الواعظ، وديوان شعر (انوار الهدى) للسيد محمد طبرستاني، ولكن هذه المطبعة لم تستمر طويلا، ولم تشهد كربلاء بعدها اي مطبعة حجرية حتى سنة 1935م، إذ أنشئت مطبعة (الشباب)، من قبل الصحفي عباس علوان الصالح، وقد طبع فيها جريدته المسمّاة (الغروب)، فضلا عن اهتمامه بطبع الكتب التراثية والتاريخية التي تخص الوضع السياسي في 
البلاد".
 
اصدارات متنوعة
يورد الشريفي "أن ما تم طبعه في هذه المطبعة من اصدارات للكتب، هي كتب مهمة كونها تبين حجم الثقافة والوعي واهمية طباعة الكتاب، واهمية وجود المطابع سواء في بغداد او المحافظات لأن كربلاء كانت تسبق المدن بفترات 
زمنية".
يقول الشريفي إن من بين هذه الكتب: (كربلاء في التاريخ) لمؤلفه عبد الرزاق آل وهاب وذلك سنة 1935م، و(الاخيضر) لمؤلفه عباس علوان الصائغ وذلك سنة 1942م، و(المعاهدة العراقية الانكليزية)، لمؤلفه عباس علوان الصائغ سنة 1943م، فضلا عن طبع بعض 
الكتب الدينية والأدعية والزيارات".
 
الصحف وطباعة الصور
ولأن وجود المثقفين ومحبي القراءة يحتاج الى مطابع أخرى وهو ما حصل، فقد ازداد عدد القراء وطالبي الكتب، وبعد أن تأسست عدة مطابع حجريَّة أخرى في كربلاء، كان التوجه الى اصدار الصحف، إذ يقول الشريفي "لقد أصدرت اول جريدة في كربلاء سنة 1916م بعنوان (الاتفاق) وقد اصدرها السيد ميرزا علي الحائري وذلك في 7/ 3/ 1916م، ثم جريدة (الندوة)، التي اصدرها المحامي السيد محمد مهدي الوهاب، والذي صدر عددها الاول سنة 1942م، وكذلك استمرت حتى الخمسينيات والستينيات القرن العشرين، بحيث كانت هناك عدة محال تنسخ وتبيع للزائرين صور الائمة وصورا دينية عن المراقد المقدسة بواسطة الطباعة الحجرية وباللون الأسود، وكان العمال يقومون بالتلوين يدوياً، مستخدمين اللون الأحمر والأخضر والأصفر، وكذلك كانوا ينسخون الآيات القرآنية على قطع القماش الخام في عمل أكفان الموتى، وكذلك قلعة ياسين، وكانوا يستخدمون أحياناً اللون الأصفر المعمول من جوهر الزعفران او اللون الأسود".
ويورد لنا الشريفي ما ذكره الاستاذ فاضل السعدي اذا انه كان يقول " انه قد وجد محل في سوق السراجين المجاور لحلويات حميد الشكرجي، يعود لإيرانيين ينسخون صور وادعية على القماش".
 
400 عام
مشيرا الى ان "الصور المرفقة هي لمخطوطات حجرية عمرها أكثر من أربعمئة عام، والتي مازال يحتفظ بها الكاتب الاستاذ صبيح حيدر محمد، وكذلك صور لوثيقة عثمانية صادرة عام 1281 هجرية للجد (الخامس) للسيد ابراهيم محمد عبد الرضا علي حسين فهد (عبدالباقي) أمين مصطفى ابو الطرشي".