السيَّاب سارقاً ومسروقاً لأجْلِه!

ثقافة 2020/10/19
...

علي شايع
 
بالطبع، ليس ثمة فكرة، ولا خاطر بدخيلة - في الأصل- أن يكون الشاعر العملاق بدر شاكر السيّاب سارقاً أدبياً، لكنه شبيه سارق النار التي أنزلها- كما في الأسطورة- من عرشها السماوي؛ بشرى وهدية، وأول من أناف بالشعر العربي الى علياء الحداثة، وجاء بنارها رائداً.
“و بي جذوةٌ من حريقِ الحياةِ تريدُ المحال”، قالها عن تلك الذكوة الأزلية التي تنشدُ المستحيل، فقبس من جمرتها شعلةً هائلةً، ليس للهيبها خفوت، ولا تخبو أو تنطفئ، لأنها من الشعر الباحث عن الحياة.
السياب شاعر الحياة العربي الأول، لأنه أكثر من تحدثت قصائده عن الماء وبيئته، كشيء حيّ، ليس بفعل تكرار المفردة، لكن أبعد من ذلك، وأقصى حتى مما تربطه الكلمات بين دال ومدلول كما يقول أصحاب الألسنيات، بفعل تأثير ما تتركه الدلالة في المعنى الذي كان السياب يشير إليه بلغة مميزة. وفي هذا المورد كُتب الكثير مما يناقش قصائد الشاعر، وسيتجلى الأكثر رهن ما تسفر عنه الأيام، فالعبقرية يكشفها تقادم الزمن بصورة أجلى.
كان السياب شاعراً للحياة لكنها سرقته، ولم يكن طامعاً فيها: “لا أبتغي من الحياة غير ما لديّ”. كان راغباً بها بقناعة، وتواقاً لها بزهد بالغ، وطامعاً فيها برضى الموجوع، ومشتهيها اشتهاء ناسك عبدته أسقامه. لم تدفع به الملمات الى البغضاء والمقت. تخلت عنه حياته، فظلّ متقشفاً مكتفٍ يسرق اللحظات من خلل أوجاعه ليكتب.
كانت آلام السياب تسرق منا وقت مبدع عملاق، حوّل تلك الآلام؛ بروح بحار يستثمر الريح المعاكسة، الى دفق عجيب لمبدع يبيده المرض كل آن، لكن روحه تواجه الفناء بالشعر والأمل.
في لقاء إعلامي قبل أيام، قال نجله غيلان السياب إنه بصدد تسليم مقتنياته، إلى مكتبة الكونغرس في الولايات المتحدة الأميركية بهدف الحفاظ عليها، بعد أن صار تراثه نهباً للزمن.
شاعرنا الكبير بلا متحف لبقايا ما ترك، ولا مزار سوى دار السياب الجد وما حوله من أثر، وأسرة الشاعر وعلى لسان نجله الأكبر، رفعت الشكوى من فقدان أشياء مهمة تخص إرثه الثقافي. فبفعل انتقالات الأسرة فقد الكثير وطمست بدايات واندثرت شواهد وعلامات. وأشد الفقد كان لصناديق من مخطوطات وكتب ضاعت بعد أن أُكرهوا على ترك الدار الحكومية- في يوم وفاته نفسه- في قصة تعرف مأساتها الثقافة العربية بأسف بالغ. وذات حرب تعرض إرث السياب الى سرقة، بعد أن اضطرت الأسرة للهجرة، أيام تركوا الدار بعهدة حارس باع المكتبة والمقتنيات في السوق.
وسائل إعلام محلية، يبدو، أنها تابعت بعض تصريحات غيلان السياب، لتضع من عندها “مزايدات” على الأخبار؛ اتهام جهات حكومية بالتقصير والإهمال. سرعان ما فنّدها نجل الشاعر، منكراً ما ورد في تلك التقارير، وموضحاً أنه والأسرة خصّوا مكتبة الكونغرس كونها الأكثر قدرة عالمياً على ترميم الوثائق القديمة ليس إلا.
لعلّ الحديث مجدّداً عن إرث الشاعر الكبير، فرصة مراجعة لكلّ الجهات المعنية، فلو جمعت الأطاريح المعدّة لشهادات الماجستير والدكتوراه والكتب التي كتبت في السياب وشعره، وحدها، لأصبح لدينا مكان ومزار يصلح أن يكون مكتبة وداراً تضاهي أكبر مكتبات العالم. وقتها ستجد أسرة الشاعر، وكلّ مهتم بأمره، مأمناً توضع فيه مقتنياته. ولو أن مثقفين ممن وصلتهم آثار الشاعر وكتبه ومخطوطاته، أو رسائله الكثيرة -التي كشف قبل أربع سنوات عن مجموعة جديدة منها- أعادوها الى تلك الدار- مرفقاً معها أسمائهم - لأصبح لدينا مأثرة ثقافية من فخر المناقب، ستشّف عن محمدة أخرى للمثقف، وتعرِّف بخصلة عطاء جديدة، ترفع بعض ما نال واقعنا الثقافي من شوائب ومثالب ووصمة منقصة.
أدافع عن السياب لأني عرفته عن كثب، بعد أن أورثني الشغف به محب آخر؛ كان صديقاً وأستاذاً كبيراً في الفنون الشعرية، وهو من أهم أبناء السياب البررة.. الشاعر كمال سبتي، المتشرف بتلك الصلة لقباً مذ قصائده الأولى. ولم يترك مناسبة إلا وأشار الى أهمية ذلك الأب الشعري، وما مرّت ذكرى رحيله إلا وكان له مقال أو استذكار عنه، وما جلس يحدث في الشعر، إلا وكان للسياب نصيبه من الحديث.
سارق النار الأول تعلّم منه سبتي اختلاس تلك الجذوة، ونبّه الى أدوات ذلك الشاعر ومكامن عبقريته، وفي سبعينيات القرن الماضي، اضطر أن يسرق لأجله (كما يعترف هو في كتابة له) حتى يشتري أعماله الكاملة حين وصلت مجموعة قليلة منها الى مكتبات مدينة الناصرية. إذ سرق مبلغاً من والده، مقراً بذلك للشاعر كاظم جهاد، ومباهياً بفعل تعاضدت فيه الأبواب بشكل نادر.
لعلّ تلك النسخة من أعمال السياب الكاملة، موجودة في الناصرية الآن، ولعلّ بعض ما نشره الراحل كمال سبتي عن شاعرنا الأكبر محفوظاً، ليكون ضمن الفيض الأول لإنشاء متحف السياب، وهو نداء للجميع.. وفي ذلك (فليتنافس المتنافسون).