بين عامي 1995-1996 وأنا أتنقل بين مدن هولندية عدة: بريدا، أيندهوفن، دين هيلدر، امستردام، اوترخت، وأخيرا لاهاي، قبل حصولي على اللجوء، كنت فيها مشغولًا برغبة ذاتية للتحقيق بثلاثة أشياء حملتها معي من العراق والاردن وسوريا، قبل أن تحط رحالي في أرض الورد والمطر والفن والزجاج، وللغرابة المضحكة هي أنني أينما أولي وجهي في الأرض الهولندية الخضراء.
يصادفي الحذاء الخشبي الأصفر، واردد مع نفسي ضاحكًا لماذا هذا الحذاء الأصفر دائمًا ما يظهر لي حتى في احلامي؟ لم اجد له تفسيرًا، فليس معي اي كتاب لتفسير الأحلام!
ولكني كنت أعيد جزءا من ثقافة أولية عن علاقة الأصفر بالخريف، فأنا قد خرجت للتو من عملية كبرى للقلب، لأجد أن الأخضر لايقترن بالربيع وحده دون الأصفر، فاستشعر جسدي الناهض للتو وهو ينشد الأمل في حياة جديدة، ألا لون واحد يكفيك في بلدان الهجرة، لا بد من اختلاط الألوان لتجد في الأخير لونك المفضل، لهذا السبب وجدت نفسي منغمرًا في استرجاع ذاتي المريضة من خلال الانغمار في صحراء هولندا الخضراء كما يسميها المستشرق البروفسور شولز. فالبحث عن الأشياء الناقصة التي أرغب في امتلاكها، كانت مداورة مع الذاكرة كآمال صغيرة كي استقر على رؤية مكاشفة مع نفسي: لماذا
هاجرت؟
الشيء الأول أن أكون معزولًا عن الآخرين، وهو ما عملت عليه أول الأمر، ولكن دون جدوى، فقد وجدت نفسي بعد أقل من ستة أشهر أؤسس مع نخبة من المثقفين” مؤسسة ثقافة 11” أقمتها أول الأمر في بيتي لندوات اثارت حفيظة رفاقي اليساريين مع الأسف، لم أندم على ذلك، فقد كانت معي صحبة من التنويريين العراقيين جعلتني استمر في المشروع حتى حققنا ما لم يحققه أحد لثقافة العراقيين في هولندا من
قبل.
نتائج العامل الأول مازالت مثمرة على مستويات مختلفة؛ من أولياتها العلاقة الخصبة مع المؤسسات الهولندية التي تولي الثقافة أهمية الغذاء والترفيه والسفر والأمن، وهو شيء ما كان متوفرًا لي التحقق منه إلا من خلال العمل، فالثقافة ليست مهمة فردية يتولاها المرء لنفسه، بل هي مسؤولية المؤسسات الحاكمة كي تجعلك ضمن من يفكرون في المستقبل، ولذلك ترافق الثقافة الإنسان من طفولته حتى مثواه الأخير، وهذه مهمة من يعلمك السياقة ويشترط عليك أن تضمن حرية الناس في الحركة، من دون أن تدهسهم، لذلك كانوا يخصصون للثقافة مالية توازي تخصيصات العيش والسفر. ليقولوا في النهاية: إن الثقافة ليست مسؤولية الأفراد، بل أرضية تهيئها الدولة، وعليك فلاحتها وزراعتها بما ترغب أنت من
نباتات.
الشيء الثاني، أن يكون لي غرفة فيها عيّنة من كتب فكرية ونقدية وفلسفية، وفيها نافذة تطل على شارع متحرك، وبالفعل اكتشفت هذه الغرفة والنافذة والشارع، وكانت لشخص في امستردام كنت أراقبه يوميًا وهو يجلس في غرفته الارضية المواجهة لنافذة غرفتي في الفندق الذي اسكن فيه في امستردام قبل حصولي على اللجوء، كان يجلس امام جهاز الكومبيوتر في بناية تتوسط بين متحف فان كوخ ومبنى السمفونية الوطنية الهولندية، وثمة مصباح طاولة يضيء وجهه، وعلى جدار الغرفة ثمة لوحة فنية، كان يكتب دون أن ينظر لي أنا المراقب اليومي من خلال نافذتي، كما لو كنت أنا هو في لحظات تأمل مستقبلي.
ثم تحقق لي ذلك في لاهاي، المدينة الهادئة الساكنة والمليئة بالفنون والغرابة وشاطئ السباحة الأجمل في اوروبا، حينما وضعت كل ما في الأمنيات تلك امام نافذة اخترقها يوميًا ببصري لأرى حركة الشارع والناس والكلاب والمارة، وفي الحقيقة كنت ارى نفسي مخترقًا من قبل المارة كما لو كنت أنا ذلك الذي كان يخترق بعينيه رجل امستردام تحت ضوء مصباح منضدته
الهادئ.
الشيء الثالث، أن أجد لي مأوى ذاتيا غير مأوى البيت، كنت قد فكرت بحديقة صغيرة، وبعد أن تعبت تركتها دون أي محصول منها، غير حصيلتي تلك الجلسات مع الدكتور نصر حامد ابوزيد والدكتور صادق جلال العظم والدكتور فالح عبد الجبار والمناضل كامل شياع، والاديب الناقد نصير عواد، والفنان حازم كمال الدين، والفنان محمد سعيد الصكَار، والدكتورعبد الله ابراهيم، والشاعر عريان السيد خلف والذاكرة تطول حتى في الاحاديث وطرائق شي اللحوم والمشروبات، فقد أردت أن أعيد بها توازني الذي افتقدته منذ زمن بعيد، تلك هي الخضرة الطاغية لطفولتي وشبابي في نخيل القرية البصرية وشطئان مياهها وأمطارها. ولكن الزمن الزاحف على الجسد يعطل ممارسات هي في الصلب من أمنياتك المحبطة. لذا هذه الذكريات امتدادات باتجاهات مختلفة، ربما ستفصح عن نفسها خلال البقية من الزمن الآفل.