حــمّى الألـقــاب

ثقافة 2020/10/19
...

محمد صابر عبيد
لا توجد حمى أسوأ من هذه الحمى ألا وهي "حمّى الألقاب" حيث فتحتْ وسائل التواصل الاجتماعيّ أبوابها لتنطلق هذه الألقاب من محاجرها وتغزو كل شيء بلا وازع، على الرغم من أنّها ليست جديدة فقد حفلت الثقافة العربية ولاسيما الثقافة الأدبية منها على نحو خاصّ بمئات الألقاب، التي لا تضيف للمعنيّ بها شيئاً بقدر ما تسيء له أحياناً، لأنّ أي إنسان قبل أن يكون أديباً أو فناناً هو إنسان باسمه وكيانه، وإذا أضيفت إليه صفة إبداعيّة فهذا شيء عظيم حقاً وهذه الصفة تكفي، فحين نقول "شاعر" أو "قاص" أو "ناقد" أو "موسيقيّ" أو "نحّات" فهذه صفة عالية ومرموقة لا تحتاج إلى ما يكملها أبداً.
ولو نستعرض ما يرد في البال من ألقاب متداولة لحقت رموز اللغة والأدب والثقافة والفكر في التاريخ العربي على سبيل المثال، فبوسعنا أن نتذكّر الكثير جداً منها على سبيل المثال سيبويه لقّب بـ "شيخ النحاة"، ولقّب الشاعر العباسيّ الشهير أبو العلاء المعري بـ "شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء" وقبله لقّب الشاعر أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي أبو الطيب الكندي بـ "المتنبي"، وألقاب كثيرة طالت كثيراً من الأدباء في كل عصور الأدب العربي منذ العصر الجاهلي مثل لقب "الملك الضلّيل" لامرئ القيس و"صناجة العرب" للأعشى و"حكيم شعراء العرب" لزهير بن أبي سلمى، وغيرهم كثير. وسرت هذه الحمّى في العصر الحديث على نطاق أوسع فسمّي نجيب محفوظ على سبيل المثال "أبو الرواية العربية الحديثة" في حين سمّي الروائي الطيب صالح في السياق نفسه "عبقري الرواية العربية"، بينما لقّب الشاعر أحمد شوقي بـ "أمير الشعراء" ولقّبت الشاعرة فدوى طوقان بـ "خنساء القرن العشرين" وغيرهم كثير بلا حساب ولا عدد.
يكفي أن تقول الآن "طه حسين" بلا أيّ صفة ولا أيّ لقب ليقف من يقرأ هذا الاسم احتراماً وإجلالاً للاسم فقط، إذ يستحضر من يعرف هذا الاسم جيداً قيمة الحركة الطليعية التنويريّة التي نهض بها هذا الرجل مطالع القرن العشرين، ويستحضر كتاب "في الشعر الجاهليّ" وما أثاره من انقلاب فكريّ كبير في الذهنيّة العربيّة التقليديّة، ولا قيمة بعد ذلك لهذا اللقب "عميد الأدب العربيّ" الذي لا يعني شيئاً، مثلما يسيء لقب "شاعر المقاومة" للشاعر محمود درويش الذي استثمره الشاعر أول الأمر ومن ثمّ انقلب عليه وطلب إنقاذه منه، حين انتقل من عتبة شعريّة المقاومة المحدودة إلى عتبة شعرية ذات طبيعة عالميّة لم يعد معها هذا اللقب في صالح الشاعر، فكسر قيد اللقب وخرج منه إلى فضاء شعريّ واسع بلا ألقاب، لأنّ اللقب أيّاً كان ينتهي إلى أن يكون سجناً يفرض على الأديب أو الفنان التزامات هو في غنى عنها، بحيث يسعى إلى التخلّص منه والتحرّر من قيوده وكسر حدوده التي تخنق صاحبها وتضيّق عليه، ولا تدعه يشمّ الهواء العليل المنتشر في الفضاء بحريّة مطلقة من دون حواجز.
لُقّبَ الشاعر نزار قبّاني بـ "شاعر المرأة" وهو لقب سيئ، قد يكون فرح به نزار في بداياته واشتغل على تسويقه للحصول على مواقع مهمة في مساحة جماهيريّة التلقّي، لكنّه أنكره فيما بعد أيضاً وخرج من أسره وقال أكثر من مرّة يستحيل وضع الشاعر في قفص واحد مهما كان القفص جميلاً، فهو في النهاية قفص بمعنى سجن، وحين يتمّ وضع الشاعر أو المبدع على نحو عام في السجن فإنّه يفتقد أهم شرط من شروط الإبداع الحقيقية وهو شرط الحريّة، لا إبداع بلا حريّة مهما كان اللقب كبيراً وضخماً وعظيماً، ولا قيمة أبداً فوق الصفة الإبداعيّة التي يحملها المبدع، فحين نصف الشاعر الحقيقيّ بصفة "شاعر" فهي صفة لا تحتمل إضافة لا قبلها ولا بعدها لأنّها ستقلّل من قيمة الصفة الأصل وتقزّمها، فالوصول إلى أيّ صفة إبداعية تعني أنّ صاحبها بلغ أعلى درجة ممكنة في حقله الإبداعيّ.
أمّا لقب "أمير الشعراء" الذي لقّب به الشاعر أحمد شوقي فهو لقب احتفائيّ محض، إذ لا يوجد أمير أو ملك أو وزير أو سلطان للشعراء أو الشعر، ويكفي أنّه "أحمد شوقي"، غير أنّ هذا اللقب تحوّل الآن إلى لعبة في بعض الفضائيّات يتنافس فيها شعراء للحصول على لقب "أمير الشعراء" في برنامج يحمل الاسم نفسه، وفي كلّ عام يتوّج أحدهم أميراً للشعراء ويحتفل به ويتقلّد عباءة الإمارة في احتفاليّة خاصة، وما أن يغادر هو وعباءه الإمارة حتى لا يبقى له أثر سوى ما تعيده القناة من صور المناسبة على سبيل التذكير، ويبقى الشعر بعيداً عن هذه الألقاب الزائفة التي لا تعدو أن تكون لعبة إعلامية تندرج في سياق ما يسمّى باللغة الإنجليزية "SHOW" ، وينطبق هذا الأمر على الألقاب الأخرى في مختلف المجالات التي تحقّق أغراضاً آنيّة لا علاقة لها بالجوهر، ويبقى بعضها متداولاً ويموت بعضها الآخر، ولا يتشبّث باللقب إلا من لا يجد نفسه في مقام صفته الإبداعيّة فيتمسّك بالظلّ ويتغافل عن الأصل.