الحياة بتضاريس مشفّرة

ثقافة 2020/10/20
...

  فاضل ضامد
الفنان التشكيلي ابراهيم نعمة من الجيل الوسط الذي عاش زمنين قبل وبعد التغيير، لأعماله سلوك فلسفي حاد ينتمي ضمن حدود الاشكال الهندسية المعبأة لا إراديا  باتجاه تخصيب المعالم الحسية مع قيّم الهندسة المعمارية المبنية على أُسس خرائطية لتكوين خلطة جينية من اللون والشكل لإكمال ذات الفنان التي اثارتها فلسفة الاشكال المبسطة، كذلك الفنان اختار شكلاً مهماً ليهندم أسلوبه به لترتدي لوحاته ملْبَساً ذا بعدين بعيداً عن تساوي الاضلاع.. للمربع والمستطيل إثارة فلسفية ربما سيشتغل عليها المتلقي ضمن حدود إدراكه وثقافته، هنا يخوض الفنان صراعاً فكرياً غير مُربك متوازٍ متحدٍ مع الطبيعة الأُم التي خضعنا لها جميعاً في بدايات الرسم والتعلم.. حوَّل كل الاشياء الى متوازيات منسجمة كموضوع خام ليُجسد افكاره، ثم وضع معنىً مؤولاً لتجسيد الفكرة عند المتلقي أو الناقد، أضاف على أعماله الأخيرة أشكالاً تكاد تكون طفولية عبثية إلا أنها مدهشة مترجماً ذلك أن العالم عبارة عن قاعدة رياضية واحدة نستند إليها هي ربما الواحد يساوي الواحد أو يوازيه الى الأبد، بهذا المعنى أصبحت لدينا نزعة جديدة في الرسم تكاد تلغي صيغة التناص أو التشابه بين الفنانين في اساليبهم، وهنا أصبح الفنان متفردا، وهذا أكبر دليل على أنه مختلف تماماً عن الآخرين، وكذلك كان للحرف المتحرك والمتغير شكلاً وحالةً أثر بالغ في أعماله فتجدها طلاسمَ وشفراتٍ أخذت تجاذباً مع أرقامه، كأنها نسق تابع للغة مفقودة نحاول سبرها. 
أعماله الأولى تنبض بتجريد abstract عالٍ مبنيٍّ على مخيال واسع عن واقع مرير مرمز بلواعج روحه المنتفضة على الأشكال الواقعية التي أخذت كثيراً من وقت الفنانين الواقعيين للوصول الى محاكاة البيئة من مشاهد علنية جهرية غير مسبوقة بخيال لتحقيق العمل الفني على أنه مصنف إبداعياً؛ لذا كان نعمة أقرب للواقع المصنف إبداعياً بثبات الحالة عبر تصويرها على أنها مكانات مؤلمة على جلودنا وسقامات حزينة بملئ مربعاته بالألوان الرمادي والأسود والألوان المشبعة التي أضفت على أعماله حساً تراجيدياً سارداً به كل المشاعر الهائمة على وجوهنا هكذا كانت الأوليات.
كلنا يعي أن الكتابة هي شكل مهذب من التشفير والذي جاء بديلا عن الصورة. الانسان السومري الذي وضع أسس الكتابة والتي تعد اليوم أكبر اختراع على الأرض لا يضاهيه أي اختراع بوصفه المادة الأولية لتسجيل الأفكار خوفاً من ضياعها، هكذا تعامل معنا الفنان ابراهيم نعمة في توثيق كل ماهو مدرج في قائمة الابتكار على شكل هندسات مخملية حالمة تبعث في نفوسنا ذلك التأمل المتكامل في ترويض عالمنا المشعث، العالم المربك هنا بنى نعمة عالمه الخاص وكأنه يخوض تجربته لأول مرة في كل لوحة، فيقدم لنا أشكالا خليطاً من الخيال وخياله الخصب مع منافذ مجساته نحو الواقع بتركيبة من عالمه الحالم الطفولي الى العالم الجاد بأسلوبيته المنفردة. 
انتقالات الفنان متعمدة بين قالب وآخر فهو يصب مخيلته في بوتقة علمية حسابية وتشفيرات كأنها بئر أسرار، ثم يعود الى تجارب أخرى، كما تشعر ان حرية الفرشاة خرجت للتو من المدرسة الانطباعية الى التجريد بألوانها المشبعة وضوئها المكثف على اللوحة مما يعطيك انطباعا انتمائيا للمدرستين في آن واحد، وهذه تجربة قاسية فهو يخوض في غمار التنقل فلسفة محكمة للتعبير عن شخصيته الفنية القوية.
انحصر المكان في أعمال الفنان بين دلالتين؛ أولاً، القيمة الشكلية الهلامية التي بعثرها الفنان على مسرح اللوحة فيتشظى المكان الى بؤر لكل واحدة ذاكرة معتمدة لدى الفنان، والثانية، الثيمة المتنقلة والمتحركة وغير الثابتة لدى بصمة الفنان ومتغيرات الاشكال بين لوحة وأخرى ليورط المكان باستثناءات حاضنة جامعة للمفردة الفنية مثل المتوازيات والزوايا والاركان والفضاءات الشاسعة وكثافة اللون، هنا ترعرع المكان ليصبح ثاني قيمة دلالية مهمة، هذه المكانات تأتي في أول التعامل اليومي نحن البشر معها وأكثرها مفردات وهمية، فالزاوية تأتي مفردة شعبية كاسم وكتقاطع جدارين أو أي شكلين، الركن هو انعكاس للزاوية، الزاوية أصبحت الملاذ والركن هو المهرب.
الفنان نعمة ذو تجربة عميقة واختزال مبهر لأشكاله وأدواته الفنية فهو يتعامل بسرعة مع الفرشاة لإنتاج ضرباتٍ بوهيمية عبثية ومكثفة لإنتاج عمل فني متكامل.