كيف موّلت CIA المجلات الفكريّة في أوروبا؟
ثقافة
2020/10/20
+A
-A
فيليب جيرالدي
ترجمة: جمال جمعة
عندما تقوم وكالة استخبارات بترتيب نشر أخبار مزيفة فهذه العملية يطلق عليها اسم “التضليل المعلوماتي”، وهي مجموعة فرعية مما يشار إليها بالعمليات الخفية، وهي في الأساس عمليات سرية تدار في بلد أجنبي للتأثير على الرأي العام أو لعرقلة مهمات الحكومة أو المجموعة التي تعد معادية.
خلال الحرب الباردة، كانت عمليات التضليل تدار من قبل العديد من اللاعبين الرئيسين في كل من منظمة حلف شمال الأطلسي وفي حلف وارسو المناهض. في بعض الأحيان يكون النشاط والرعاية باديين للعيان، كما هو الحال عندما كان راديو أوروبا الحرة وراديو موسكو يتبادلان الانتقادات اللاذعة بشأن مدى سوء الحياة اليومية في دول الحلف المعادي. غير أنها في بعض الأحيان تتخذ سراً شكل نشر قصص في وسائط الإعلام تكون غير صحيحة بشكل واضح ولكنها مصممة لتغيير تصورات العامة بشأن ما يحدث في العالم. وفّرت حرب فيتنام ساحة مثالية للعب بالوكالة، إذ قدمت القصص الصادرة عن الحكومة الأميركية ومؤيديها سرداً للكفاح من أجل الديمقراطية ضد الشمولية، في حين روّجت الكتلة الشيوعية قصصاً معاكسة عن القمع الاستعماري والرأسمالي لشعب يسعى إلى أن يكون حراً.
ورثت وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) غطاء العمليات السرية كإرث من سلفها مكتب الخدمات الستراتيجية (OSS)، والذي حقق نجاحًا جديرًا بالاعتبار في إدارة عمليات التضليل خلال الحرب العالمية الثانية. لكن كانت هناك منذ البداية معارضة كبيرة لمواصلة مثل هذه البرامج لأنها كانت مُكلِّفة وعرضة لارتداد مدمر عندما يتم تحديدها وكشفها. في أوروبا الغربية، سارعت الأحزاب الشيوعية المحلية القوية إلى الإعلان عن زلّات الاستخبارات الأميركية، ولكن مع ذلك فإن القدرة على التلاعب بالأخبار والإعلام لوضع القصص الناقدة للسوفييت وحلفائهم أدت إلى البرامج الكبرى التي موّلت المجلات والكتب، فيما سعت أيضا لكسب كادر من الصحفيين من شأنه كتابة مقالات تحت الطلب برهنت على أنها أكثر إغراءً من أن يتم تجاهلها.
كانت هناك تحقيقات كبيرة ذات أثر رجعي بشأن استخدام وكالة المخابرات المركزية لآليات التمويل السرية بما في ذلك “مؤتمر الحرية الثقافية” لتمويل الكتّاب والمجلات في أوروبا، وأشهرها كانت مجلة “Paris Review” ومجلة “Encounter” التي تصدر من لندن. وبما أنه كانت هناك حرب منخفضة الحدة مستمرة ضد الشيوعية، الصراع الذي أيده العديد من الكتاب الوطنيين، فإن تمويل المجلات وإيجاد المساهمين لكتابة المواد المناسبة كان سهلاً نسبياً وبالكاد يواجه تحديات. بعض كبار المحررين كانوا يعرفون أو يشتبهون بشدة في من أين يأتي تمويلهم في حين أن البعض لم يكن كذلك، لكن أغلبهم لم يطرح أية أسئلة لأن رعاة المجلات الأدبية كانوا، كما هي الحال عليه الآن، في نقصان. العديد من الكتّاب كانوا على غير دراية بشأن التمويل، لكنهم كتبوا ما كتبوه بفعل قناعاتهم السياسية الشخصية. وكالة الاستخبارات المركزية، والتي تسعى إلى الحصول على ثمن مقابل المال، كانت تقوم بحثّ بعض خطوط التحرير، لكنها لم تكن دائماً مندفعة جداً في القيام بذلك لأنها تسعى إلى السماح للعملية بأن تتم دون تدخل مفرط.
كانت المجلات الفكرية شيئاً واحداً، لكن اختراق عالم الصحف كان قصة مختلفة تماماً. كان من السهل العثور على صحفي منخفض أو متوسط المستوى والدفع له لكتابة مقالات معينة، لكن الطريق إلى النشر الفعلي كان وما زال أكثر تعقيداً من ذلك، إذ كان يمضي عبر عدة مستويات تحريرية قبل أن يظهر مطبوعاً. يورد كتاب صدر مؤخراً الاعتقاد بأن وكالة المخابرات المركزية لديها “عميل واحد على الأقل في صحيفة في كل عاصمة عالمية منذ عام 1977” يمكن توجيهه لنشر القصص أو الإجهاز عليها. وفي حين أنه من الصحيح أن السفارات الأميركية وأجهزة الاستخبارات كانت لديها مقدرة كبيرة على وضع القصص في عواصم أميركا اللاتينية وأجزاء من آسيا، إلا أن السجل في أوروبا، حيث عملتُ، كان مختلطاً إلى حد ما. كنت أعرف محرراً رئيساً واحداً فقط في صحيفة أوروبية كبرى كان يُعد مصدراً للوكالة، وحتى هو لم يتمكن من وضع أخبار مزيفة لأنه كان مسؤولاً أمام كل من هيئة تحريره والتكتل الذي يملك الصحيفة. كما رفض أيضاً أن يتقاضى راتباً من وكالة الاستخبارات المركزية، مما يعني أن تعاونه كان طوعياً وأنه لا يمكن توجيهه.
كان لدى وكالة الاستخبارات المركزية، في الواقع، عدد ضخم من “الأرصدة” الصحفية في أوروبا ولكنهم كانوا عموماً مراسلين محليين أو متوسطي المستوى ولم تكن لديهم في الواقع سوى قدرة محدودة على تشكيل الأخبار. لقد كتبوا كثيراً منشورات لم يكن لها تأثير يذكر أو لم يكن لها أيّ تأثير على الإطلاق. في الواقع، قد يتساءل المرء بعقلانية عما إذا كان دعم المجلات الأدبية في الخمسينات والستينات، الذي تحول إلى عمليات أكثر مباشرة للبحث عن عملاء صحفيين، له أي تأثير ملحوظ على الإطلاق من الناحية الجيوسياسية أو على الحرب الباردة ذاتها.
الأكثر مكراً كان ما يُسمّى بعملية (الطائر المحاكي)، التي بدأت في مطلع الخمسينات من القرن العشرين، والتي أقامت بشكل أكبر أو أقل تعاوناً علنياً بين دور النشر الكبرى ووسائل الإعلام الأميركية للمساعدة في مكافحة “التخريب” الشيوعي. هذا النشاط تم الكشف عنه من قبل سيمور هيرش (صحفي أميركي) في عام 1975، كما وصفته إلى حد أبعد لجنة مجلس الشيوخ الأميركي في عام 1976، بعد تلك النقطة أصبحت عمليات وكالة المخابرات المركزية للتأثير على الرأي العام في الولايات المتحدة غير قانونية، كما أن استخدام الصحفيين الأميركيين كعملاء أصبح كذلك محظوراً بشكل عام. كما عُرف أيضاً أن الوكالة كانت تعمل خارج سياق ميثاقها التأسيسي في التسلل إلى المجموعات الطلابية والمنظمات المناهضة للحرب في إطار “عملية الفوضى”* التي كانت تديرها وكالة المخابرات المركزية المثيرة للجدل، إن لم تكن المجنونة تماماً، في مكافحة التجسس المضاد.
وبما أن عجلة الحكومة غالباً ما ينتهي بها المطاف لإكمال دورتها، يتهيأ لنا أننا عدنا إلى عصر التضليل الإعلامي، إذ يُشتبه الآن في قيام وكالات الأمن القومي التابعة للحكومة الأميركية، بما في ذلك وكالة الاستخبارات المركزية، بنشر قصص تهدف إلى التأثير على الرأي العام في الولايات المتحدة وإحداث رد فعل سياسي. ملف ستيل عن دونالد ترامب (المعروف أيضاً بملف ترامب ـ روسيا) هو أنموذج مثالي، وهو تقرير طفا إلى السطح من خلال سلسلة مدروسة من الإجراءات التي قام بها مدير وكالة الاستخبارات المركزية آنذاك جون برينان، والتي كانت مليئة بتلميحات لا يمكن التحقق منها تهدف إلى تدمير سمعة الرئيس المنتخب قبل توليه منصبه. إنه، بدون شك، تطور إيجابيّ بالنسبة لجميع الأميركيين الذي يهمهم وجود حكومة صالحة أن يعتزم الكونغرس الآن التحقيق في الملف لتحديد من الذي أمر به، ودفعَ ثمنه، وما الذي كان ينوي تحقيقه.
*- فيليب م. جيرالدي هو متخصص سابق في مكافحة الإرهاب في وكالة الاستخبارات المركزية وضابط استخبارات عسكرية خدم تسعة عشر عاماً في الخارج، في تركيا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا . كان رئيساً لقاعدة وكالة الاستخبارات المركزية لدورة برشلونة الاولمبية في 1992 ومن أوائل الأميركيين الذين دخلوا افغانستان في كانون الاول/ ديسمبر 2001. وهو المدير التنفيذي لمجلس المصلحة الوطنية، وهي مجموعة مناصرة مقرها واشنطن تسعى إلى تشجيع وتعزيز سياسة خارجية أميركية في الشرق الأوسط تتماشى مع القيم والمصالح الأميركية.
- عملية الفوضى Operation CHAOS: مشروع تجسسي محلّي تابع لوكالة المخابرات المركزية استهدف الشعب الأميركي . أنشأه الرئيس ليندون جونسون وتوسع في عهد ريتشارد نيكسون. كانت مهمته الكشف عن التأثير الأجنبي المحتمل على الشعب الأميركي والتغلغل في المنظمات المناهضة للحرب والحركات الاحتجاجية الأخرى داخل الولايات المتحدة الأميركية. استمرّ البرنامج من عام 1967 إلى عام 1974.
عن American Herald Tribune