موت الشاعر.. أسطورة حيّة في الثقافة البريطانيَّة
ثقافة
2020/10/23
+A
-A
ورود الموسوي
ما زال البريطانيون يفضلون الرؤية الرومانسيَّة للشاعر حتى لو كان الشاعرُ واقعياً جداً في كتاباته وميوله وفلسفته الخاصة. إذ ما زال الشعرُ بالنسبة لهم هو الحالة
الشعورية والرومانسية الخارجة على الواقع من الواقع وما زالوا يرون أن الشاعر هو حامل
المأساة الكبرى فلا شاعر بلا معاناة وألم، بل لا يمكن لشخص مرفهٍ أو غني مادياً أن
يصبح شاعراً حقيقياً.
وقد عزز هذه النظرة ما تعرض له غالبية الشعراء الانكليز في حياتهم من معاناة وآلام أدّت الى انتحار بعضهم أو موتهم المبكر بسبب الأمراض التي كانت متفشية آنذاك. وهذا ما خلق لديهم نظرة (اسطورية) لموت الشعراء وأنَّ الشاعر لا يموت بل يتكرر موته في فنون أخرى.
الموت تكراراً
ولعلّ من أبرز قصص الشعراء، قصة الشاعر توماس شاتيرتون ذي السبعة عشرة ربيعاً التي هزت المجتمع الأدبي والثقافي البريطاني ليلة الرابع والعشرين من آب/ أغسطس عام 1770 حين عُثر عليه منتحراً في حجرته الصغيرة (ذ اتيك روم) بالطابق العلوي في منطقة هولبورن, هذه الميتة جعلت منه اسطورة يتكرر موتها في كل عمل يُشار إليه. حتى وكأنه أصبح محكوماً عليه بالموت تكراراً رغم أنه اكتسب شهرة واسعة بعد موته لم يكن يحلم بها في حياته القصيرة.
يقول الشاعر والكاتب البريطاني مايكل سيمونز روبرتس (53): (لقد تغير الشعر كثيراً منذ أيام تشاتيرتون، ومع ذلك فإنَّ صورة الشاعر بوصفه شخصية معذبة ومأساويَّة كانت وما زالت منتشرة بشكلٍ ملحوظٍ حتى أنها أصبحت مزعجة في الكثير من الأحيان).
الشاعر توماس تشاتيرتون كان ابن خياطةٍ أرملة من مدينة بريستول الواقعة جنوب غرب إنكلترا لم يكن طفلاً نابهاً بل كان يحلم بالعيش في الماضي وكان يرى نفسه جزءاً من الماضي، لهذا تم فصله من المدرسة باعتباره طالباً كسولاً ومملاً فتعلم القراءة والكتابة في المنزل. أحب الطفل شاتيرتون الجانب الثقافي في المدينة بتراثها القديم وعراقتها كمدينة لكنه كره الجانب التجاري فيها (تجارة الرقيق تحديداً) والذي كان يراه يكبر كل يوم ليبتلع المدينة. لكن هذا لم يتم إيقافه عن التدريب في مكتب للمحاماة ليكون ضمن السكرتارية القانونية وتعرّف على مجموعة أخرى تدربت معه من الشباب الذين تم اختيارهم وإياه بناءً على قدراتهم الأدبيَّة ورغم هذا فإنَّ قدراته الأدبيَّة لم تؤهله للاختلاط أو الاقتراب من الدوائر الفكريَّة والأدبيَّة لمدينة بريستول.
لم يتوقف الأمر عند حد أبداً فعشقه للماضي جعله يكون من أشهر وأقوى المزورين في تاريخ الأدب على مرّ العصور.
إذ ادعى شاتيرتون انه اكتشف أوراقاً في كنيسة سانت ماري ريدكليف تعود لراهب يُدعى (توماس رولي) تعود الى عهد إدوارد الرابع أي للقرن الخامس عشر وأنها مكتوبة بطريقة أدبية رفيعة المستوى حتى أنَّ المتخصصين لم يشكّوا لحظةً بصدق دعواه واقتنعوا تماماً بأنها تعود للراهب توماس رولي لا للشاب الصغير توماس شاتيرتون الذي استمر في إنتاج سلسلة من القصائد والخطابات والمرافعات من قبل الراهب الميت منذ زمن طويل، ولكنَّ الحقيقة والواقع أنها صيغت بهذه العظمة من شاتيرتون نفسه.
ساعدت قصائد رولي بجلب الشهرة للشاعر الشاب وساعدته على تأسيس سمعته الخاصة بين الأوساط الأدبية، والتي ما زالت تُعد تحفة أدبيَّة كتبها شاعر معذّب اُسيء فهم موهبته، ما أدى الى انتحاره.
يقول الشاعر البريطاني مايكل روبرتس إنَّ قصائد شاتيرتون تنم عن نضجٍ عقلي لرجل سابق لأوانه فهي تكشف رغم أنها ما زالت محاولات (مراهقة) عن وجهات نظر مستنيرة فمدينة بريستول كانت مركزاً لتجارة الرقيق، وقد رأى شاتيرتون المستعمرين الأوروبيين في قصائده من منظور رجل أسود, كيف يراهم وكيف يصفهم كتجار رقيق فوصفهم بأنهم «أطفالٌ شاحبون من الشمس الواهنة» ويرى روبرتس أنَّ شاتيرتون هو أول شاعر انكليزي دعا لإلغاء الرق في إنكلترا.
لكن انتحار الشاب المبكر جعل منه اسطورة كبرى حتى بعد اكتشاف انتحاله لعدد من الكتاب الآخرين فقد كتب عن الريف واعتمد في كتابته على شعراء مثل تشوسر وسبنسر وعلى القصص الشعبية الإنكليزية المعروفة وهذا كله استفاد منه جيل من الرومانسيين الذين كانوا يتبعونه. مما لا شك فيه أنه كان عبقرياً وذلك لتنوع وغزارة إنتاجه لكنها كلها كانت نتاجات مزوّرة عن آخرين ورغم ذلك عدم اكتشاف انتحالات إلا بعد موته لكن ظل الشاب محبطًا بسبب عدم الاعتراف به في مدينته بريستول لذلك قرر الانتقال الى لندن حيث انتهى به الأمر منتحراً في حجرته في هولبورن بعد أنْ تناول جرعة زائدة من مادة الزرنيخ.
الشاعر العبقري
لم تنته حياة تشاتيرتون عند اكتشاف جثته وسبب موته بل ألهم بموته جيلًا من الرومانسيين الذين اتبعوه، وقد رثاه كبار الشعراء في ما بعد بأبياتٍ شعرية كـ «كيتس وكوليردج ووردزوورث وغيرهم» وكتبت قصائد كثيرة على شرفه ويبدو أنَّ انتحاره ساعد في تكوين صورة للشاعر العبقري المعذب الذي لم ينتبه لموهبته أحد، ما أكسبه تعاطفاً كبيراً وجعله مخلّداً في أعمال كثيرة، ففي العام 1856، تم تخليد لحظاته الأخيرة في لوحة شهيرة جداً رسمها (هنري واليس) ساعدت على ترسيخ فكرة الشاعر في المخيلة الشعبية الإنكليزية, في حين يعترض الشاعر البريطاني مايكل سيمونز على هذا بقوله:
«إنَّ هذه الصور شوهت نظرتنا إلى الشاعر الحقيقي الذي كان يستحق أنْ يُذكر لأشياء أخرى أكثر بكثير من الظروف المأساوية لوفاته».
لكنَّ صورته المأساوية هذه ساعدت في خلق أسطورة الشاعر المعذب، الذي يعيش في فقرٍ مدقعٍ ليدفع الثمن النهائي لموهبته بالموت. هذه الصورة التي رسمها واليس لتشاتيرتون اتبعها الفنانون بعده لإضفاء الطابع الرومانسي على موته فنشأت مصانع خاصة باسم توماس تشاتيرتون لا لبيع اللوحات فحسب، بل لبيع المناديل المرسوم عليها انتحاره.
اسطورة الشاعر المعذب
ورغم انه لم يثبت عليه الانتحار ولم يُدفن أبداً في مقابر المنتحرين أو لم يُسجل انه انتحر لأنَّ الأطباء اعتقدوا بأنه مات من جرعةٍ عرضية زائدة لمادة الزرنيخ لم يكن يقصدها إلا الناس فضلوا نظرية الانتحار لتكتمل الصورة عندهم.
وظلت اسطورة الشاعر المعذب تلاحق الشعراء من جيلٍ لآخر ففي القرن العشرين، مات كلٌ من ديلان توماس وسيلفيا بلاث وجون بيريمان وآن سيكستون في وقتٍ مبكرٍ من حياتهم، وتم تذكرهم على أنهم شخصيات معذبة بالمثل بل إنهم كانوا يقارنون بين عذاباتهم الخاصة وبين عذابات تشاتيرتون!
لكنّ الشاعر الشاب الذي مات بغصّةِ عدم اعتراف مدينته به كشاعر عبقري لم يكن يعلم بأن مدينته بريستول ما زالت تحتفل به في الرابع والعشرين من كل عام وتتذكره كأحد أهم شخصياتها الأدبية, وقد صادف احتفال مدينة بريستول بالذكرى الـ 250 لوفاة تشاتيرتون في 24 آب/ أغسطس 2020 ، لكن هذا العام وبسبب إجراءات الوقاية من فيروس كورونا والإجراءات الاحترازية المشددة من قبل الحكومة البريطانية جعلت المدينة تعتمد ببث حفلها على المنصات الافتراضية حيث انطلق الحفل داخل مكتبة بريستول المركزية بمختارات من شعر تشاتيرتون مروراً بتاريخ حياته ونتاجه القصير كأحد أهم وأبرز شعراء مدينة بريستول المعروفة بأنها من المدن الشعريَّة في بريطانيا.