صورة الشاعر بين الواقع والمتخيّل

ثقافة 2020/10/23
...

د. وسام حسين العبيدي
 
للشاعرِ الذي يعنى بنظم الكلام وتأليفه بحسب المعايير الجمالية التي ينطلق منها، صورتان قد لا نجدهما على قدرٍ واحدٍ من السيرورة في أوساطنا الثقافية بشكلٍ خاص؛ لما يراد لذلك التعويم من غاياتٍ قد تبتعد عن الحقيقة، بفعل سياسة المتخيّل الجمعي، 
وما يطمئنُّ إليه من ثوابت، ولا أخفي أن كلا الصورتين قد تشتركان بقدرٍ معيّن من الترابط، وتفترقان في سواها، وأعني بذلك، ما نجده في كثير من الكتابات التي ينطلق منها المثقفون في الحديث– بصفةٍ إيجابية- عن الشاعر، بوصفه الملهم وأنه الأكثر تحسسا من 
الآخرين في مشاعره، والأقرب إلى الطبيعةِ في نقائه وسلوكه، والأصدق 
ضميرا من الآخرين.
فهو النابض بالجمال، والداعي إليه، والمعبِّر عنه أينما حلَّ وارتحلَ،.. الخ من الصور التي بتنضيدها مجتمعةً تكوِّنُ لنا صورةً تقتربُ من صورة الملاك في المتخيّل الجمعي، وربَّما يفوق الملاك، الأمر الذي نتلمّس ثبوتَ ذلك التصوُّر، ما نجدهُ عند الكثير على صفحات التواصل، وغيرها من المنصّات التي يتصدّى إليها هذه الفئة من المثقفين عن 
سواهم، بتقديمهم صفة (الشاعر) على غيرها من الصفات، ناهيك عن الذين تمسّحوا بأردان هذه الصفة، وهم أبعد ما يكونون عنها فنّيًا أو مضمونيًّا أو الاثنين معًا؛ وذلك طمعًا في أنْ ينالوا تلك الرتبةِ السنيّةِ في مخيال الأمة التي ينتمون إليها، فمن يُقال له: (شاعر) يكون 
ملاكًا طاهرًا، ونبيًّا أو شبه نبيٍّ على أقلِّ تقدير!، في حين لو نأتي إلى التراث الذي تلقّفته هذه الأمة، فلا نجد تلك الصورة «الملائكية» 
للشاعر.
 فكم من الشعراء/ الشواعر كانوا على مرِّ التاريخ، دُعاةً إلى الحرب، وإلى الوقيعة بآخرين من قومهم أو من آخرين اختلفوا معهم في التوجه الفكري أو المذهبي، وكم منهم ربّتَ على أكتاف الطغاة والظلمة، وكم منهم طبّلَ للعُتاة وسوّغَ أفعالهم الشنعاء، وكم منهم روَّج للجهل وتسطيح الوعي وارتكاب الحماقات، وكم منهم لم يُطابق فعلُه قولَه، هذه الصورة «الشنعاء» هي الأكثر تسيُّدًا من سواها في الساحة الثقافية العربية، حتى أنّها كانت تُهمةً وسُبّةً ألصقها مشركو مكّة وعُتاتُها للنبيِّ الأكرم حين جاءهم رسولاً من عند الله سبحانه، على الرغم منْ أنَّه لم ينقل (ولم يقل) لهم شيئًا من الشعر الذي يعرفون خصائصه الشكلية المائزة عن سواه من أجناس الكلام؛  لأجل أنْ يعرف من حوله أنَّه ليس إلا من صنف تلك الفئة «الشعراء» الذين تميّزوا بجمال الكلام وحلاوة الصور والإيقاع فضلاً عن الإلقاء، أما سوى ذلك من مطابقةٍ للواقع أو اشتماله على الصدق، والفائدة، والإصلاح، وكل ما هو خيرٌ من القيم، فهذا لا يُعنى به الشاعر أصلاً، وليس مُطالبًا به، كما قيل لبعض الفلاسفة: (فلان يكذب فىي شعره؛ فقال: يراد من الشاعر حسن الكلام، والصّدق يراد من الأنبياء) [كتاب الصناعتين، العسكري: 137].
 فالكذبُ يكون عند الشعراء، هو السبب في تميّزهم عن الآخرين من جهة، وتمايزهم على بعضهم من جهةٍ أخرى، ويدلّنا قول قدامة بن جعفر (ت: 337 هـ) (إن الغلو عندي أجود المذهبين، وهو ما ذهب إليه أهل الفهم بالشعر والشعراء قديماً، وقد بلغني عن بعضهم أنه قال: أحسن الشعر أكذبه. وكذلك يرى فلاسفة اليونانيين في الشعر على مذهب لغتهم) [نقد الشعر: 19] على ذلك بوضوح، وهذا ما أراده ضمنًا 
أولئك الذين كذّبوا الرسول الخاتم، بوصفهم إيّاه بـ(الشاعر) لأجل الطعن في مدّعاه، وبالمحصّلة إبعاد الناس عنه بتكذيب رسالته جملةً وتفصيلا!.
 فمن أين جاءت تلك الصورة «الملائكية» التي يتسابق إليها الجميع من مثقفين– بحسب الاصطلاح الدارج للثقافة طبعًا- وتتشكّل في مخيالهم أنساق القداسة والتصنيم لذلك الوصف المهيب في روعهم.؟ هل لأجل إضفاء مكانةٍ معنويةٍ لهم في متلقّيهم، بجعل خطابهم أعلى من مستوى الخطاب العادي القابل للتصديق أو التكذيب.؟ أم لأجلِ البهرجة الإعلامية التي دومًا ما تلهثُ وراء الألقاب والأوصاف الرنّانة، وكان «الشاعر» أحد تلك الأوصاف.؟ الأمر الذي انعكس أثرهُ في ابتعاد الأعمِّ الأغلب منهم، من صفةِ (الناثر) الذي يُفترض أنْ يُقابل صفة الشاعر في الضفة الأخرى، بجعلها– أي صفة الناثر- صفةً مرذولةً، غير مرغوبٍ بها، تُساق في الكثير من الأحيان، بحسب الترميز الثقافي للخطاب وسميائيته التواصلية، للنَيل من (فلان) لم يرُق له جانبٌ من سلوكياته، أو لم ينتظم داخل الجماعة التي تواطأت ثقافيًّا في خطاباتها. علمًا أنَّ النثر، ليس الكلام العادي، ومقامهُ في البيان العربي ليس بالهيّن مناله، فكم من شاعرٍ كبيرٍ أتحفنا التاريخُ بهم، في حين لا نجد المبرّزين من أصحاب القلم الناثرين، إلا في عددٍ محدود، قد تتّصل مشكلة النفور من صفة (الناثر) بما نراه من الهيام بتلك الصورة الملائكية، التي أخذت حيّزها الواسع من مخيال النخبة والعامة على حدٍّ سواء، فهي صورة تُرضي الذات المتعطّشة إلى الكمال، والتائقة إلى أنْ تكونَ على الدوام، محلَّ إعجابٍ وانبهارٍ من الجميع، حتى وإنْ كان الخطاب الأدبي الصادر عنها لا يمتُّ إلى الخصائص المتوارثة للجنس الأدبي المُسمّى شعرًا.
 فترحيل النظر عن تلك الخصائص الصارمة للجنس الأدبي، ليس في اكثره صادرًا عن موقفٍ نقديٍّ ناضج يؤهّل صاحبه لتأسيس رؤية جديدةٍ للخطاب الأدبي الذي يشتغل على إنتاجه، بقدر ما يمثّل تلك الرغبة الدفينة في النفس؛ لنيل تلك المكانة التي تحدثنا عنها. 
وهي مكانةٌ لا تُتاح لغير حاملي هذا الوصف الذي من شأنه، تحقيق تلك الأماني المنشودة فيه. وأخيرًا نؤكّد النظرة النسبية التي انطلق منها كبار الصحابة، وقبلهم الرسول الخاتم في نظرتهم للشاعر، بوصفه إنسانًا مثل الآخرين، له حسناته وسيئاته، وبالإمكان أنْ يكون صالحًا بعد فساد، كذلك العكس، الأمر الذي دفع الرسول أنْ يجعل الشعراء من المسلمين محاربين بألسنتهم أولئك الذين تصدّوا بأشعارهم لإسقاط الرسالة وتسفيه مضامينها، ويضمن لهم من الثواب الجزيل، ما يشجّعهم في تلك المهمّة، ويُبقيهم في ذلك المضمار، كذلك ما قاله الخليفة عمر بن الخطاب: (الشعر كلامٌ، فحسنه حسنٌ، وقبيحه قبيح) يؤكّد تلك النظرة النسبية، التي من شأنها ترسيخ النظرة الموضوعية للشاعر، وجعله قابلاً لأن يكون في معرض الذم والانتقاد في حال انحطاطه وإسفافه، أو في معرض الإشادة والمدح في حال تحليقه فنًّا وموضوعًا بما ينسجم وثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه وقيمه بحسب الظرف التاريخي والفكري، وتأكيد النظرة الموضوعية إلى شعر الشاعر بغضِّ النظر عن مسلكه الشخصي في الحياة، باعتبارها حجر الزاوية في تقييم الإبداع من دون نوازع شخصية تتحكِّم في تلك النظرة.