عندما تتاح لكَ الفرصة لقراءة نصوص الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور مباشرة، ومن دون وسيط قرائي أو تحليلي أو حتى نقدي ككُتب مؤرخة الفلسفة أو أولئك الذين خصصوا كتباً عنه مثل: أندريه كريسون، وعبد الرحمن بدوي، وأحمد معوض، وجيل دولوز، وكليمان روسّيه، وغيرهم، فإنّك سرعان ما تكتشف حضور مواطنه الألماني (إيمانويل كانط) (1724 - 1804)، في أغلب المتون الفلسفية لشوبنهاور منذ مقدِّمة مؤلَّفه العمدة (العالم إرادة وتمثلاً).
ذلك الكتاب الصادر بلغته الألمانية، وفي طبعته الأولى، عام 1819 حتى آخر مؤلَّفاته في مسعى تناصي المنحنى يكشفُ عن (جدلية تواصلية نقدية) مذهلة عاشها شوبنهاور مع معلِّمه الكبير إيمانويل كانط. فكيف جرت صور ذلك التناص الفلسفي النَّقدي، وبماذا اتفق واختلف شوبنهاور مع ذلك المعلِّم الكبير؟.
تكشف تلك المقدِّمة بأن شوبنهاور وضع كتاباً كاملاً عن كانط تحت عنوان (نقد الفلسفة الكانطية) وهو كتاب يتضمَّن تجربته القرائية العميقة لمتون كانط الفلسفية التي لم تفارقه يوماً في حياته منذ بواكير قراءاته الأولى له حتى رحيله، ولذلك، طابت لي مراجعة كل مؤلَّفات شوبنهاور في لغاتها الأصلية والمترجمة، فلم أجد أي واحد منها إلّا وكان كانط حاضراً فيها.
إنّ ما هو مدعاة للغرابة هو أن شوبنهاور، وفي خلال حياته الطويلة، لم ينشر كتابه عن كانط مستقلاً؛ ففي تلك المقدِّمة أوضح بأنه سيضع هذا الكتاب كـ (ملحق) على هامش متن الجزء الثاني من كتابه (العالم إرادة وتمثلاً) .
كانط العظيم
ما هو إشكالي هنا هو عدم معرفتنا بالسنة التي أنجز فيها شوبنهاور كتابه النَّقدي عن كانط (نقد الفلسفة الكانطية)؛ فمن ناحية، يُوحي نص المقدِّمة بأنّه وضع أفكاره الرئيسة ومساراته المنهجية قبل الشروع بكتابه (العالم إرادة وتمثلاً)، فهو يعترف بحجم أثر كانط فيه، وتأثره به، لكنّه يقول: "وإن كنتُ أبدأ أساساً من كانط العظيم، فإنّ دراستي الجادّة لأعماله قد مكَّنتني، مع ذلك، من اكتشاف أخطاء هائلة فيها؛ وكان لزاماً عليَّ أن أعزل هذه الأخطاء، وأبيِّن دواعي رفضها، كيما يُمكنني أن أتخذ وأطبق ما هو حقيقي ومتميز من مذهبه وقد أصبح نقياً وخالصاً من الأخطاء، ولكن تجنباً لقطع سياق العرض الذي أقدَّمه وتشويشه باتخاذ موقف نقدي من كانط، فقد أفردتُ لهذا ملحقاً خاصاً". (العالم إرادة وتمثلاً: ترجمة: سعيد توفيق، مراجعة: فاطمة المسعود، ص 31، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 2006)، والترجمة العربية تستند إلى الطبعة الثالثة التي ظهرت في عام 1859.
أما من الناحية الأخرى، فنلاحظ أن كتاب (نقد الفلسفة الكانطية) تضمَّن نقداً لاذعاً لجورج فريدريك هيجل، وكان لهذا النَّقد الذي انحدر إلى مستوى وصف شوبنهاور لهيجل بأقذع الأوصاف، مثل: "ناشر اللامعنى"، و"كيس الريح"، و"مشعوذ"، و"مؤشر الغباوة الألمانيّة"، و"الأحمق"، و"الأبله المتصنِّع الثقيل الظل"، و"المنحط عقلانياً"، و"السفسطائي"، إلى غير ذلك من الأوصاف السلبية، كان مثل هذا النَّقد الانفعالي قد ظهر في كتاب (نقد الفلسفة الكانطية: ترجمة: حميد لشهب، ص 67).
وتجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين شوبنهاور وهيجل كانت قد تأزَّمت منذ عام 1820؛ عندما كان هيجل رئيساً للجنة اختبار كان شوبنهاور يريد منها الموافقة على حصوله لقب علمي بالجامعة، لكن هيجل بدأ بالهجوم عليه من دون أن يتمعَّن في فلسفة شوبنهاور الخاصَّة بمبدأ العلة الكافية، فقرَّر هيجل مغادرة قاعة الاختبار ليحصل الأول على اللقب العلمي كاستحقاق طبيعي، ومن يومها كانت البغضاء بينهما، وهذا يعني أن كتاب (نقد الفلسفة الكانطية) ربما تم وضعه بعد كتابة (العالم إرادة وتمثلاً) الذي تم نشره في عام 1819، خصوصاً أن الدكتور سعيد توفيق (ص 18 - 19)، مترجم كتاب شوبنهاور (العالم إرادة وتمثلاً)، يؤكِّد بأن المجلّد الثاني من هذا الكتاب ظهر بعد ربع قرن على نشر الأول، ومعروف أن هذا المجلّد تضمن (نقد الفلسفة الكانطية) كملحق فيه.
ومن هنا، كان ذلك الانشغال سبباً في اعتراف شوبنهاور بأن "فلسفة كانط هي الوحيدة التي تكون المعرفة التامَّة بها أمراً مفترضاً فيما سنقوله هنا" (ص 32)، أي ما ابتناه شوبنهاور من خطاب فلسفي خاص به، ما يعني أن فلسفة كانط تلك سنجدها حاضرة في نسيج فلسفة شوبنهاور على نحو متناص ومتداخل لا ينفيه شوبنهاور نفسه ولا يرفضه رغم أنه توجَّه بنقد حاد لكانط في كتابه (نقد الفلسفة الكانطية)، لكنه ورغم حدة ذلك النقد، بدا مطبوعاً بتأويلية شعرية قائمة على إزاحة المعاني المعجمية الخاصة بمفاهيم كانط الرئيسة نحو دلالاتها القرائية التي كان صوتها يبحث عن قارئ حريص على ما تريد قوله في سياق خطاب كانط الفلسفي نفسه.
شعريّة النقد الفلسفي
ولذلك، يصبح النَّقد الفلسفي شعرياً عندما يخترق من الناحية المعرفية جدار بنية خطاب الآخر الفلسفية إلى عمقه ليس لغرض الإساءة إليه، فليس عمل المفكِّر أو الفيلسوف ولا مهمة الفكر هو التشهير بخطاب الآخر بطريقة بذيئة، إنّما لفهم أو إدراك فائق لماهيات ما يريد قوله ذلك الخطاب، وذلك بتقويض ما يمكن تقويضه من معانٍ معجمية جاثمة فيه، فكانط الذي جعل من "الشيء في ذاته" = (Thing-in-itself) غير قابل للظفر به على نحو محايث أو محسوس، عادت القراءة الشوبنهاورية إليه بروح جديدة عندما وضعت "الشيء في ذاته"، وبانزياح دلالي جديد، في صلب العالم المحسوس ليس بشكل ساذج، بل وعندما جعلت الإرادة في ذاتها أو الإرادة وحدها هي كـ "الشيء في ذاته" وحده أيضاً، فهما يمشيان مثلنا بين أشجار حدائق المدينة التي نقطنها ولكن كتجلٍّ وتجسّدٍ موضوعي لهما؛ "الإرادة" وحدها تبقى في ذاتها، و"الشيء في ذاته" يبقى وحده في ذاته، وما سواهما يبقى يدور في فلك التغيّر والصيرورة والمثول المحسوس.
هكذا، يُبدي شوبنهاور رغبة عارمة بتوجيه قرّاء كتابه (العالم إرادة وتمثلاً) إلى قراءة الملحق أو (نقد الفلسفة الكانطية) أولاً قبل توجّههم إلى قراءة الجزء الأول من كتابه (العالم إرادة وتمثلاً)، وذلك لأنَّ مادّة كتاب (نقد الفلسفة الكانطية) "لها دلالة خاصَّة بالنسبة للجزء الأول من كتابه العالم إرادة وتمثلاً"(ص31)، فهذا الجزء من الكتاب، والخاص بجانب من نظرية المعرفة الشوبنهاورية، يضع حدوداً فاصلة بين فلسفة الرجلين سعى شوبنهاور نفسه إلى تبيانها ليكشف عن أصالته النَّقدية، وفرادة خطابه الفلسفي، وانفصامه عن فلسفة كانط رغم أن روحه تشبَّعت بمفاصلها الفلسفية من حيث المفاهيم والنَّظريات الخاصَّة بنظرية
المعرفة، وكذلك بنظرية (الشيء في ذاته).