التلقين والتعليم

آراء 2019/01/14
...

د. حسين القاصد 
لا يختلف اثنان على ان العرب امة تلقين، او هكذا اعتادت ان تعيش وتقاد؛ وهي امة صوتية، تعتمد على ترديد مايقال حتى يرسخ في الاذهان، وهو الأمر الذي سار عليه العرب من زمان الجاهلية الى عصر ما بعد التدوين.
فلقد كان كل علم العرب هو الشعر، وكان حتى الخطيب اذا خطب في الناس يقول : ( ليت شعري) بمعنى : ليت علمي، ذلك لأنه خطيب وليس شاعرا، والشاعر وقتذاك له منزلة العالم ؛ وكي لا ابتعد عن رأس امري وعنوان مقالي، 
فإن هذه الأمة تحفظ الشعر وتردده، وحين دخلت عصر التدوين وعرف العرب فائدة التعليم كانت أولى طرق التعليم هي طريقة التلقين، حيث يأتي المعلم او المربي ويردد مايريد ان يحفظه الطالب، ويقوم الطالب بترديد ماقاله المعلم، حتى يستتب حفظ ماقيل خلال وقت المحاضرة بعد التلقين الممل والترديد عشرات 
المرات . 
التلقين والصوت ونبرته كانا كفيلين بايصال المعلومة، سواء كانت معلومة علمية او توجيها من خطباء الجوامع ؛ لكن الغريب في الأمر هو ان تستمر هذه الطريقة التعليمية وتنتقل من الجوامع و( الكتاتيب) الى المدارس والجامعات، بل الى طلبة الدراسات العليا، حيث تبدأ المحاضرة - وقد لاحظت هذا بأم عيني - بأن يطلب الاستاذ من طلبة الدراسات 
العليا!! 
ان يحضروا ورقة وقلماً ويبدأ يقرأ عليهم مما لخصه هو لنفسه كي يلقنه لطلبته، ويبدأ الطلبة بالكتابة حدّ الملل، فلا مداخلة مع سلطة التلقين، ولا محاورة ولا نقاش، انما هي معلومات على الطالب ان يدونها لأنها مضمونة في الامتحانات، وهكذا يتم ما يشبه العقد بين الطالب المتكاسل الذي يطمع بالنجاح لا العلم، وبين الاستاذ الذي لخّص المعلومات وقام بتلقينها 
للطلبة. 
ان التعليم بهذه الطريقة يغلق العقل ويمنعه من التفكير امام سلطة التلقين ويؤدي الى نتائج سلبية بسبب (ببغاوية) تناول المعلومة وحفظها وترديدها؛ لذلك وبعد ان تسبب التلقين بجمود الوعي الجمعي وازدهار الافكار المتطرفة، لاسيما في المدن التي سقطت بيد داعش، التي يعتمد قادته 
على اسلوب التلقين والاداء الصوتي، فصار الملقن يقود قطيعا من مسلوبي التفكير، فهيمن الفكر الارهابي الذي اعتمد التلقين والشرط الصوتي لترسيخ الافكار المراد ترسيخها، اقول: لذلك، وبعد ان خرج العراق من كل شروط التعليم التلقيني بدءا من ترديد ( الشعارات ) في القيام والجلوس، وليس انتهاءً باغتصاب اللغة حيث صار لايمكن للطالب ان يخاطب زميله بكلمة ( رفيقي ) لأن كلمة الرفيق لم تعد تعني الصديق بعد ان دخلت في القواميس الحزبية، التي تعتمد على التلقين 
الجمعي . 
هي دعوة لانتشال الواقع التعليمي من مخطط الجمود العقلي الذي اريد للطالب العراقي ان يعيشه وفق ماتريده الجهة الملقنة، وهي دعوة لاعادة تأهيل الاساتذة الذين اعتمدوا هذه الآلية في التدريس، وزجهم في دورات علمية حديثة يكون اجتيازها شرطا لاعادتهم لممارسة التدريس.