بعد الغابة.. بابٌ بلا مغزى

ثقافة 2020/10/25
...

زعيم نصار
كنتُ في ذلك الكهف البعيد، الذي لم يكن له اسم، 
قبل أن أسمّي الليالي، لم يكن للكلماتِ معنى، 
ولم تكن هناك ألواح، أقرأ فيها مصيري، 
بعد أن استقوسَ هلالُ الشجرة
صارت الأغصان معنا، تغطي عُريَنا بالأوراق،
الأثمار أعلى قليلاً من العينين، كنتُ أشيرُ إليها فتسقطُ، حينما أمدُّ يدي تمتلئُ بالأوهام، يدي مقبوضةٌ، شفتاي تمرّان بهدوءٍ فوق عشّ الرغبة، تلهبان القلب بالذروة، وقد كان الظلام متجليّاً في منزل الجوزاء.
***
انفصلتُ عن الأشياء، بدأتْ حربي معها،
سال اللعابُ بالأسماء، لعابُ الشمس، الأسماءُ أوهامٌ ماكرةٌ، كأنها زهور لا عطر لها، مثلي مثل من يُسمّي: القسوة بخور مريم، والزنبق الأبيض بالنظرة اللاهبة، القرنفل نبعي الهارب، أما الليلك فأسميه الندبة النازفة، النرجس رثاء الذات، وعود الصليب جوهرة معتمة.
أبطال، وضحايا، آلهة أسميهنّ صوري الكاذبة: إله الليل، إله الصدى، إله المطر، إله الرعيان، إله الحرب والوباء، آلهة الطبول المجلجلة، صانعة الأقواس، ولحى الغربان: هذه صورٌ معلّقةٌ في طابقٍ شاهقٍ وطويل على كتف السماء.
***
ثمَّ ورد في الأخبار التي وصلت إليَّ أن أحدهم مرَّ من هنا، وكان يحملُ قوساً وسهاماً، ومزماراً، وحينما انقطعتْ به السبلُ، غلبه النعاسُ، فمات بلدغة الثعبان.
***
هبّت عاصفة إنليل تكنسُ القشّ، والريش، فانحنى لها كلُّ شيء،
انحنت الأشجار، تكسّرت أرواحُها على جوانب الطرق، 
انحنت توائم اللؤلؤ والنجوم، وتعرّجت الأنهار 
من اليمين الى اليسار
حتى لاذت بالفرار
بعيداً وراء الفضاء، نرى حناجر مخنوقةً تشهق بلا مغزى، والقمر هو الربّ.
 *** 
فأسي بيدي، تقوّسَ ظهري،
لمّعتُ حربَتي، وبدأت الهبوط على الحافّة، شقيّاً بجذوة اللهب، على كتفِي تتعكّز الفاجعةُ، عصرتني الطواحينُ بالنكبات، اضعتُ فأسي قبل أن أصلَ الى المدينة، على عجلٍ باغتتني المخالبُ، تركتُ غابتي، صرتُ نزيلاً في البيتِ الغريب، وقد تشابكتْ عليَّ السهام، أحثُّ خطاي وراء مراكب النساء المكشوفة في وسط الساحة، بماذا أسمّي أنياب السقوط المتدحرج من تحت شجرةِ التوت الى الباب؟ 
***
ماذا أفعل بهذا الندم؟
جمرتي الوحيدة تحت جلد المنيّة،
أتمرّغُ لاعناً المخاوف والأراجيف
تدمي رأسي مناقيرُ الأسئلة،
كيف انتزعتُ قلبي البريّ، ورميته في الأقفاص، 
كيف خرجتُ من الغابة، لأدخل هذا الباب منحنياً؟ كنتُ صاعداً نحو الهاوية،
كان يغطيني عراءُ الليالي شارداً مع الغزلان، حالماً بنبتةٍ تجعل الأيام مزروعة على ضفة الانتظار.
*** 
نحن طرائد قصة ستروى، رهائن الأصوات، من يضمّد جراحنا؟ استبدّ بنا القلقُ، نحن الذين قهرنا الوحوش، أيقهرنا السيّاف؟ تشتّتْنا في الوديان، لم نستطع أن ننحني على وردةٍ سقطتْ منّا في الطريقِ، لم نلتقطْ عشبتكَ الطريّة التي هربتْ بها الأفعى، وتركتـْها على صخرةِ الشيطان، أهذه عشبة أم مطرقة على الرأس؟ يدٌ تلوّحُ لي كمجذافٍ لقاربٍ بعيد.
***
بالأمسِ كنتَ تطاردُ العنقود، فـتخطو بقوة اليأس، لتعبرَ الجثثَ في كلّ مكان، تململَ قلبــُكَ بالنحيب، بعد أن دخلتَ، أصبحتَ عاجزاً عن تحمّل الغربة الخفيّة، فناديته: أيها الباب لو كنتُ أعرف انكَ ستنفيني، لرفعتُ فأسي التي أضعتها، وحطمتكَ، لصنعتُ منك زورقاً، ورجعت أدراجي، 
ما الحيلة وانتَ تزيلُ اسمي، وتسوّره بالمقبرة، 
أستشعرُ الصدمةَ التي ضربتْ مزاجي، 
أستدرجُ وردةً منسيّة على ضفة المسقى، 
بلا كلام أفكّر بالانتظار، ولا أنتظر أحداً، هممتُ بتقطيع نفسي، فأوهمتها انني أصغي للعبةِ الكلمات، 
فأسمّي الأشياء،
 التسميةُ باب الأخطاء، 
العواطف أكاذيب تسيلُ مع الأخبار التي وردت: أن العجلات قد غرقتْ، والمدينة صفراء من شدّة الكراهية، تستمر المجزرة في الساحات والجسور، وهناك فتيان قد اختفوا في سراديب سوداء، تشظّيتُ في المنفى، وتركتُ اللصوص والقتلة، 
ما معنى
أن تنحني كلّ يوم للأفعى من أجل عشبة المغزى
أيِّ مغزى
ونحن نرى جديلة الطفلة، تنزف دماً فيذريه الهواء، 
عرّينا أنفسنا للسيوفِ، وغطسنا في حطام الفضاء،
ما معنى هذه الكمامة على فم الحياة،
جنَّ جنونـي، وأنا أرى بيتَ الموت يشيّدهُ هذا الزمان، لا مكان إلا للهذيان.
***
بالأمسِ استبدتْ برأسي الحمّى، فهذيتُ، هذيتُ، أتأتأ: بؤس العالم يخذلني، قرأتُ على خوذتي التماعةً حادّةً، حريتي مسلوبة، أوقعت روحي تحت القيود، والسلاسل، والسجون، وهذا سببه النسيان، نسيان غابتي حوّلني إلى شبحٍ تائهٍ يطوفُ وحده، فيرمي نفسه في المطحنة، الزمنُ شيخُ المصائب، وأنا أردّدُ مع نفسي هذه التأتأة: كأنني كمامةٌ على فم الحياة، قفّاز نهار أسود، صنارة المعقمات،
سقوف مهددة بالسقوط، 
حتى أنني شددتُ تعويذةَ السِّنان على عنقي قلادةً من عظام الموتى،
أحصي الذين سقطوا، سال الدمُ فوق رسائل الحبيبات حيث تومض الشاشات، مع لمعان رصاص القنّاص، 
التأتأةُ برهانٌ لفقدانِ البراءةِ،
البراءةُ المفقودةُ منجنيقٌ للقتل، خزّانٌ للأزمةِ الأبدية، 
اقرأ، اكتبْ، تألمْ، تعرّفْ، افهمْ، 
استوعبِ الموتَ،
تَحفّزْ لشمعةٍ يشعلُ خيطها الألم، 
هنا رعب الامبراطوريات التي دمرتنا، ضللتنا بالفوضى والإحالات، الأحلام كلّها لا تساوي شيئاً أمام هاوية الروح، أمام قطرةِ دمٍ لطفلةٍ سقطتْ في وسط الساحة، أو على الجسر، أصابعها تحفرُ في جدار المجزرة، أهذه حياةٌ أم لبلابة تتعلّقُ بالحبال على السطوح؟ تنزلقُ خفيفةً على الصحون مثل رغوة الصابون، لم يعد من متّسعٍ للتيه والعمى، أتلمّسُ هذا، وأراه على جبين الآلهة التي اشتبكتْ مع بعضها، واستسلمتْ معصوبة العينين راكعةً للراية السوداء، لمنطق الحقيقة الواهمة، عودتـُـــــــــنا إلى الغابةِ لا تكتملُ إلّا بقيثارة المعنى.. معنى العشبة؟ 
أيِّ معنى، ما معنى أن تنحني كلّ يوم للثعبان من أجل عشبة البؤس واللعنة... اللعنة. 
***
أيها العارفُ بالطريقِ، هذا هدير جرحي الجديد، مهّدْ مسالكَ الأيام لأقدامي، حياتـي ظلامٌ، قباقيبُ الكهنة تدوسُ بهائي، يا من رحلتَ معي، لتبلغَ الشجرةَ، وتأسرُ العفريتَ، لنرحلَ مرّة أخرى، دلّني على الباب، دلّني على باب المغزى.