حين نشير إلى (الذاكرة الشعبية) فإننا لا نتأوّل حديثاً عن ممارسة ذهنية مجردة، بل نذهب لتأمّل مجادلات الإنسان الشعبي لوجوده في المكان واستكانته إلى اشتراطاته، وما تهيأ له - في مساحة التأثير والفعل- أن يترسّخ من قيم وممارسات واعتقاد وحصائل من الإبداع الأدبي والفني الذي يعبّر عن تلك المماحكة الأثيرة بين الإنسان- وهو يستحيل وجوداً مجتمعياً- وما يستقر عليه حضور المكان في وعيه ولا وعيه معاً من إنتاج ثقافي يتسع لسلوكه ومعارفه وقيمه وتفوهاته الجمالية.
ومن تراكم تلك القيم والممارسات والأفكار تتأسّس ذاكرة شعبية ثقافية خاصة بمكانيزمات محتواها وما يمكث على أرض الواقع الشعبي من خصوصيات هوية معلنة يراكم فيها خبراته المتنوعة ويتناقلها جيل عن جيل، لتستمر تتنفس حضورها الحي والفاعل، ويتلقاها الفرد وتعايشها الجماعة إرثاً يستحكم بالعواطف والسلوك، بيقين انتماء ولذائذ استعادة. وتستحيل هويته الثقافية التي يمتلئ وجوده بها ما دام ذلك الفرد- وتلك الجماعة- تعيش طمأنينة مكثها في المكان وحيوية انتمائها إليه.
ولكن تلك الدعة الملتاذة بخصوصيات ما تختزنه ذاكرة الفرد والجماعة ما تلبث أن يتزلزل وجودها المستكين إلى ما بين يديه من قيم وممارسات ومنجز ثقافي حين تهب عليها رياح المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية القادمة من خارج التكيّف الشعبي المتطامن مع مكانه، ولاسيما تلك الصراعات الداخلية التي ليس كمثلها فعل سوء يمزّق اللحمة المجتمعية ويفتت الهوية الوطنية إلى هويات متضادة، لتستيقظ في الذاكرة الجمعية لهذه الفئة أو تلك نوازع وعصبيات وترات دينية ومذهبية ومناطقية وعشائرية تأخذ بإغراق جرف التماسك المجتمعي بمياه الفرقة وتذهب بمكنونه بعيداً نحو ما استقام لأجيالها السابقة من تعايش متجاوز لكل اختلافاته، فتتهمش الذاكرة الجمعية المتطامنة، وتستبد حالة من الفوضى راهنة الادعاءات والتصورات. وخلال ذلك يبدأ الحاضر المتناحر بإنتاج قيم وممارسات وسلوكيات جديدة تصادر من ذاكرة الأجيال الراهنة- وهي تعيش واقعها المحتدم بالتناحر والاضطراب وافتقاد الصلة بالمكان ومن فيه وغياب الدعة والطمأنينة- كثيراً من تجليات الموروث الذي ردده آباؤهم وأجدادهم وتراكمت قيمه وكشوفاته التي لم يعد لها من زمان تستعاد فيه أو مكان يلم شملها. وذلك ما تعرّض له وجودنا الشعبي العراقي الراهن وذاكرته المشتجرة بمدد أزمنة وأجيال خصيبة العطاء.
فمع ما حلَّ بالعراق وشعبه من محن وويلات وحروب وحصارات، ثم ما انتهى إليه أمرنا من خراب قيمي شامل بعد الاحتلال وإفرازاته كان لا بد أن تصاب الذاكرة الشعبية بأعطاب وانكسارات وتلوّث قيمي جارف استبد بكل جوانب حياتنا الراهنة.
لقد تعالى مدّ الفساد في مختلف مجالات حياتنا الراهنة، وتحول إلى ثقافة يتحدث عنها الكثيرون، ولكنهم لا ينأون بأنفسهم عنها إذا ما تهيَّأت لهم الفرصة أن يكونوا قريبين من السلطة ومؤسسات الفساد والإفساد الكثيرة فيها- فقد هيمنت نوازع الاستحواذ والتملك ومظاهرها المادية، لتزيح بعيداً الجانب الثقافي- ومنه الموروث الشعبي بآدابه وفنونه- وتحيله إلى فاعلية محدودة التأثير في الأوساط المجتمعية، ولاسيما بعد أن غاب تماماً دور المؤسسات الرسمية المختصة في الشأن الثقافي الشعبي.
وتماهت مع تلك العوامل التي تنال من الذاكرة الشعبية أهوال العوز والحاجة وافتقاد الأمان وراحة البال، والبحث المكدود عن لقمة العيش، وذلك كله مما يجعل من الدعوة إلى استعادة قيم المواطنة وهويتها الشعبية الأصيلة وموروثها الخصيب نوعاً من الترف الذي أين منه مهيمنات الضنك اليومي الذي يعيشه المواطن العراقي المبتلى بسارقي يقينه الوطني.
وفي خضم تلك النوازع الهائجة يدلف التطرّف الديني والمذهبي، وتأخذ فتاوى التجهيل والتكفير لتمد يد دعاواها كي تنال بالرفض والتسفيه لكثير من الممارسات الثقافية، ومن ضمنها ما يكتنزه الموروث الشعبي- من عادات وتقاليد وفنون- تلك التي تظن أنها تناكفها مسعاها في الهيمنة على العقل الشعبي الذي تريد له أن يظل مستجيباً لدعاواها نحو ممارسات طقوسية ذات نزوع غيبي، تجافيه كثير من الممارسات الفولكلورية.
هكذا أخذت كثير من مكتنزات ذاكرتنا الشعبية بالذبول وبهت بعض ألوانها وتلاشت أخرى، من دون أن نحظى بمؤسسات رسمية حقيقية ترمم فقدانات وجودنا الثقافي- ماضياً وحاضراً- لتذهب به ذاكرة يقظة يتلقاها المستقبل. وعلى هذا فلن يكون مستغرباً ولا مفاجئاً أن يدّعي كثير من تلك المكتنزات غيرنا، وأن تأتينا على أنَّها حصة له، فتصفق لها أجيالنا الراهنة التي تجهل أنها ميراثها الذي هان عليها واجترحه سواها
لنفسه.