ليس توطيناً!

آراء 2020/10/27
...

جواد علي كسار
ما جرى من تحويل رواتب الموظفين إلى كبرى المصارف الوطنية، والسحب عن طريق بطاقة الصرف الآلي، لا يعد توطيناً بل تدويرٌ، وبيان القصة يحتاج إلى مقدمات.
تتمثل المقدمة الأولى بعلاقة العراقيين بالمصارف، فلا تزال هذه العلاقة إجمالاً غير ودودة، ترتبط بذاكرة حذرة متوجسة، ناشئة عن حكاية الاقتصاد الأحادي الاشتراكي، الذي كان سائداً إبان حكم النظام الساقط، فقد كانت المصارف قليلة، ولم يتعامل معها الناس بثقة واطمئنان، في إيداع الفائض من أموالهم ومدخراتهم، وإنجاز معاملاتهم، إلا إذا دفعتهم لذلك ضرورات إنجاز المعاملات، كأداء الرسوم والضرائب وما شابه.
من خلال عملية استقراء واسعة ومتابعة لمواقف الناس، كان الغالب على قناعة العراقي شعوراً بفقد ماله، إذا أودعه في مصارف الدولة. هذا من حيث الإحساس النفسي، وهو ليس إحساساً مجرد، بل أقرب إلى حقيقة، يؤيدها الواقع البائس للاقتصاد الأحادي الذي كانت تتحكم به يدٌ قابضة واحدة، هي يد النظام الشمولي المستبد، الذي ألغى قيمة الإنسان، فما بالك بثرواته وممتلكاته؟
على هذا الخلل النفسي من عدم الثقة وغياب الاطمئنان، مضت علاقة العراقي مع المصارف على قلتها ومحدوديتها، إلى أنْ سقط النظام وانفتح كلّ شيء، بما في ذلك الوضع المصرفي. ومع أنَّ متغيرات مهمة شهدها القطاع المصرفي في العراق، تحركت عبر مفاصل بارزة في طليعتها تأسيس المصارف الخاصة، والمساهمة في التجارة والاستثمار، ومشاريع مختلفة في السكن وغيره، إلا أنَّ قاعدة عدم الثقة بقيت هي المسيطرة على الشعور النفسي العراقي، الذي كان ولا يزال يتجه إلى الريبة منها وعدم التعامل مع المصارف إلا اضطراراً.
ساعد على ذلك اهتراء النظام المصرفي الموروث، وعدم تطوّره بما يلزم لكسب ثقة الناس، عبر توسيع الفروع والشبكات المصرفية، وإيجاد المحفزات في كسب أموال الناس وفائض مدخراتهم من خلال الأرباح وما إلى ذلك، والتخلف عن تقديم الخدمات العصريَّة مثلما هو حاصل مثلاً في إيران والخليج ومصر وتركيا وبلدان أخرى. أضف إلى العامل النفسي السلبي الموروث، وتخلف النظام المصرفي ومحدودية خدماته، وعدم جاذبيته للإيداع؛ أضف إلى ذلك كلّه التجارب السلبيَّة لأغلبنا، كما حصل معي أكثر من مرّة، ولغيري كثيرين، والقصص والمواقف التي تطفح بالغصة والمرارة من سلوك مصارفنا، ليست قليلة أبداً!
هذه البيئة الواقعية من حيث قلة المصارف وضآلة الخدمات وعدم تجديد بنيتها بعد السقوط، وضغوطات الواقع السلبي الموروث، جعلت حجم مدخرات الناس في مصارفنا لا تزيد على 18 % فقط، في حين إنَّ في أيدي الناس وبيوتها ما يزيد على (70) مليار دولار. وهذه إجمالاً بيئة طاردة للتوطين؛ على أنَّ التوطين لم يحصل أساساً، بل هو تدوير للرواتب من جهةِ استلامٍ إلى جهة استلام أخرى، فالإنسان إذا حلّ في مكان لشهر أو شهرين مثلاً، لا يسمى المكان وطناً إلا إذا أقام به ستة أشهر بحسب الفقه الشرعي، والراتب الذي يستعجل صاحبه بسحبه بعد ساعات من إيداعه، لا يحظى بصفة التوطين!
أضف إلى ذلك إنَّ التوطين يحتاج إلى طرف آخر، لكي يتفعل ويتحول إلى ثقافة يومية؛ تتمثّل باعتماد مراكز البيع لنظام الصرف عبر البطاقة بدلاً من النقد، وهذا سلوك شبه غائب في أسواقنا!