الرواية العربيّة واستشراف المستقبل السياسي للبلاد

ثقافة 2020/10/27
...

د. عبّاس آل مسافر
 
هكذا هي الرواية العربيّة الحديثة كباقي الروايات العالميّة تتأثر وتؤثر فيها الحياة، وقد تحمل توجهات عدة تكشف من خلالها الوجه الآخر للكتابة السردية، وهو وجه غيرُ تقليدي بطبيعة الحال، فرضته الظروف السياسيّة والاجتماعيّة التي مرّت بالبلاد العربيّة، وأهم تلك الوجوه، هو بروز ظاهرة "استشراف المستقبل" التي وظفها بعض الروائيين العرب، وهذه الظاهرة جديرة بالدراسة والمناقشة والبحث، وهذا ما يغري الباحث في مجال علم السرد على أن يكشف عن القصدية التي يخبئها السارد بين طيات كتابته، حينَ يقوم بإخراجها وقت ما يرى نفسه محتاجًا لها من أجل تدشين العملية السردية للرواية.
  
مفهوم الاستشراف
والاستشراف في جذوره اللغويّة يمتد من لفظة "شرف" وهو كما يراه ابن منظور "كل نشزٍ من الأرض قد أشرَفَ على ما حوله، وقال الجواهري :الشَرفُ العلو والمكان العلي"، ويعني أيضاً من  جانب قريب، هو "المُشْرَف، المكان الذي تُشرِفُ عليه وتعلوه، والشُرفةُ، أعلى شيء وهي التي تُشَرَّفُ بها القصور وجمعها شُرفٌ".  
وقد يكون هذا المعنى اللغويّ للاستشراف قد تطور زمنيًا من الرؤية للأشياء من مكان بعيد إلى الأشياء بدلالاتها المادية إلى الرؤية للمستقبل معنويًا. بينما يعني مصطلح "الاستشراف" في النقد الحديث بوصفه خليطًا من مفهوم تراثيّ له جذور عربيّة. 
وبين مفهومه الحديث الذي استمدته الثقافة العربيّة مثل المفاهيم الأخرى من الغرب، ففي التراث وقف بعض النقاد على مفهوم "الاستشراف" بأنّه "كأي لفظة عربية تحمل مخزوناً ثقافياً ثرّاً وقدرة على المطاوعية الدّلالية، فقد اتسع مدلول الاستشراف ليشمل كل ماله علاقة بإدراك الغائب واللاحق من المعرفة مع ما تشير إليه لفظ اللاحق من دلالة زمنية؛ أي الذي لم تدركه الذات ولم تخبره بعد.
 وتبعا لذلك استبدلت تجارب الإنسان السابقة وما وعاه بوضع اليد على الجبين، كما استبدل أيضاً الحذق والفراسة والحدس والألمعية باعتلاء ما يمكن اعتلاؤه للتشوف فوقه، ولأن السبب الرئيس في هذا التوسع التوقع المضمر في مصطلح الاستشراف"؛ لذلك يعد هذا المصطلح ـ الاستشراف ـ مصطلحًا يفتح أكثر من باب  للتأويل.   
ولو بحثنا عن معنى "الاستشراف" في منظومة النقد الحديث نجد بأنَّه ينحو باتجاه "تقنية زمنية تخبر صراحة أو ضمناً عن أحداث سيشهدها السرد الروائي في وقت لاحق. فإن استشراف الحوادث التي ستقع في المستقبل يبدو بعيداً عن المنطق لأول وهلة، لأن هذه الحوادث لم تقع بعد وليس هناك تعيين بأنها ستقع لاحقاً. فضلا عن ان ايراد ما سيقع قبل وقوعه يقلل من فرص تشويق القارئ. ويظهر الراوي بمظهر العالم المتعالي على القارئ المروى له، كما يمكن القول بأنّ التطلع للمستقبل والاستشراف" هو قد يكون كامناً، في استحياء أحداث تسبق النقطة التي وصل إليها السرد الذي سيتنامى (صعداً) من الماضي إلى المستقبل، يقفز إلى الأمام متخطيا النقطة التي وصل إليها السرد. 
الاستشراف إذن حكي الشيء قبل وقوعه، وترتبط تقنية الاستشراف بما سمّاه (تودوروف) عقدة القدر المكتوب، والشكل الروائي الذي يستطيع الراوي فيه أن يشير إلى أحداث لاحقة هو شكل الترجمة الذاتية أو القصص المكتوب بضمير المتكلم. 
إذ أن الراوي يحكي قصة حياته حينما تقترب من الانتهاء ويعلم ما وقع قبل لحظة وبعده وبداية القص ويستطيع الإشارة الى الحوادث اللاحقة من دون إخلال بمنطقية النص ومنطقية التسلسل الزمني. إذن يمكننا أن نقول بأنّ الاستشراف يمثل أحد أشكال انتظار أفق القارئ وتوقعاته لما ستؤول إليه النهايات المتوقعة من قبل الكاتب؛ من أجل غاية تحاول إضفاء أبعادًا نفسيّة وتقنيّة على القصة.
 
وظائف "الاستشراف"
يقوم "الاستشراف" أو كما يرد في بعض الدراسات النقديّة "الاستباق" بتقريب البعيد من الأحداث، وتحويل أنظار القرّاء إلى استكشاف المصائر بأنفسهم؛ وقد يكون هذا من أجل زيادة تسريع الأحداث وإضافة المزيد من التشويق لمعرفة النهاية التي غالبًا ما نكون مهووسين بالوقوف عليها، وقد يعمل الاستشراف فضلا عما ذُكر بقلب نظام الأحداث في السرد عن طريق تقديم متواليات حكائية محل أخرى سابقة عليها بالقفز الى حدث ما، وتجاوز النقطة التي وصلها الحكي لاستشراف الأحداث المستقبلية قبل موعدها، والتطلع إلى ما سيحصل من مستجدات في السرد. 
ولا يمكننا أن نغفل وظائف "الاستشراف" الوراد في القرآن الكريم، فمع أنّ القرآنَ بوصفه الكتابَ المقدّس لآخر الأديان السماويّة وكانت مهمته إبلاغيّة وبلاغيّة في الوقت نفسه، إبلاغيّة لتوجيه الإنسان ودعوته للعمل والعبادة، إلا أننا نجدُ هناكَ آياتٍ قرآنيّة كريمة تحمل بشارةً للمؤمنين وتهديدًا ووعيدًا للمخالفي أوامر السماء ونواهيها، والمهمة البلاغيّة تتضمن الجنبة الإعجازيّة في تحدي العرب بأنهم لن يستطيعوا الإتيان بمثله وهم أهلُ بلاغةٍ وفصاحةٍ.
ولو حصرنا مجال بحثنا في روايات معينة فمثلاً لو اخترنا الروايات التي صدرت في عدد من الأقطار العربيّة بعد عام 2011، وتحديدًا تلك التي تمثّلت فيها مظاهر "ثورات الربيع العربيّ" التي قامت ضد بعض الأنظمة العربيّة الدكتاتوريّة، 
وانطلقت شرارتها من تونس حينَ أقدم شابٌ على إحراق نفسه بسبب الفقر، وانتقلت شرارة هذه الثورة إلى مصر ثُمّ ليبيا وسوريا وأدت إلى تغيير نُظم الحكم في تلك البلدان وقوضت السلطة في بعضها، وأجرت انتخابات فيها وتغييرات في سياساتها الداخليّة والخارجيّة. 
وأعادت مواقف هذه الدول من بعض القضايا العربيّة، وعلى الرغم من أنَّ هذه الروايات ـ عينة الدراسة ـ لا تختلف في بناها السرديّة عن الروايات العربيّة السابقة أو المتزامنة واللاحقة لها، إلّا أنّ ما يميز هذه المجموعة أنها تملك الرؤية الاستشرافيّة لمستقبل الثورات التي أندلعت. 
ومن بين النماذج الروائية ـ وهي كثيرة ـ
 وقع الاختيار على بعض الروايات التي تتصف بأنّها مكتملة العناصر إلى حدٍ ما، وناضجة البنية، والأهم بأنّها تعالج مسألة انتفاض الشعب ضد السلطات المُستبِدة بالدرجة الأساس، وهذه الروايات متوزعة بين بلدان ثورات الربيع العربيّ لتكن أنموذجًا من كل بلد تعبّر عن الكتابة السرديّة في البلد، وهي كالآتي:
1ـ رواية (لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة) خالد خليفة/سوريا.
2ـ رواية (فارس الأحلام المقتول) إبراهيم الكوني / ليبيا. 
3ـ رواية (انتصاب أسود) أيمن الدبوسي/ تونس.
4ـ رواية (بعد الحفلة) يحيى الجمّال/ مصر.
5ـ رواية (جمهورية القرد الأحمر) ياسر أحمد/ مصر.
6ـ رواية (السيجارة السابعة) دنيا / مصر
7ـ رواية (عطارد) محمد ربيع/ مصر.
8ـ رواية (طائر التلاشي) محمد رشيد الشمسي/ العراق
9ـ رواية (لعنة الأمريكان) نعيم آل مسافر/ العراق