مقارعة ذبول المعتاد

آراء 2020/10/28
...

   عماد جاسم
لم يبق في العمر مساحة للمجاملات، ولم يعد المزاج مرهوناً بقبول الآخر السلبي، الذي يفرضه القدر والصدفة وطبيعة العمل وقرابة الدم والعشيرة، تجالسهم بنصفين من الروح والذهن، تصادر نصفك المتوج بالصدق والعمق متستراً من سهام التقريع، وتبدأ بتشغيل نصفك المنصاع لثقافة السائد البليد، اذاً فهي معركة تدور رحاها وتتشابك بضراوة بين ذاتك المصقولة بعشق الفضيلة وذاتك المنحازة لكسب ود الآخر والانحدار الى مراسيم الاستلام والتسليم في حوار عقيم ومزاج عقيم وزمن عقيم، كثيرا ما أعاتب نفسي، في كم مرة اكون انا في اي حوار او مقابلة او مرافقة او مجالسة تكون ذاتية التي صنعتها واعتز بها هي تتصدر اللقاء وتعرب عن نفسها وعن نفسي؟ يبدو السؤال ساذجا، لكن الجواب مثقلا بالمرارة، ان تكون مغتربا عن نفسك منقادا مثل الماشية لدروب يسلكها الاخرون، وقد يحدث ان تنسى ينبوع ذاتك الاصيل وتشتاق اليه بألم وحرقة، وقد يحدث أن تفتش عنه بين جدران البلادة والاعتياد الصماء، تدنو منه في لقاء عابر مع روح لذيذة تشبه حلم الذات المستكينة في القاع، فتستغيث من جزعك وتمطر عليك البشاشة، تدنو وتدنو ولا تكاد تفتح ذراعك للربيع، حتى يغتالك كابوس الخنوع لمراسيم الاضطرار والارتهان لعوالمهم وصنيعة ذاتك التي ادمنت الموت الوئيد، كل صباح تقرر أن تقشر نفسك لتكون اللب الذي تشتهي، تتسمر امام مرآة الضمير وتتيقن أنك الاجدر على امتلاك عافية الصدق، تعيد صياغة مبررات الوجود البهي، تخاتل كواسر(الزحمة والعيب)، تفتش عنهم تلك النفوس المضيئة بالحكمة والسلام، تلك المتصالحة مع صوتها وتاريخها ومبتغاها، تلك المنصتة نعم المنصتة، فالانصات بات أحد أهم حتميات التواصل وعلامات الانسانية. 
المساءات مغلقة بالثرثرة مسورة بالعموميات، مشدودة الى قاع التناحرات والمكاسب والتجريح، تلبس خوذة المحاربين وتقاتل في اتون معارك الاستحواذ والتملك ورهانات الربح والخسارة حتى ضمن دائرة النقاش، تغرق في متاهات الذبول وتعتاش علي أيامك غربان التسطيح والانكسار اليومي، وفي عتابك الليلي على وسادة الاستجواب، تخالطك الأماني والهزائم تحصي سويعاتك الاصيلة ونبضات قلبك المقرونة بلحن الحنين والجمال والتلقائية، وتحصي ساعات القرف المهدورة مثل حروب حمقاء سرقت بيضاك وجنونك وهيامك، تحصي ركلات الدنيا من زوائد بشرية حسبت عليك وأثقلت جناحيك تحصي بصاقها وعفونتها، تحصي هزيمتك، وأنت تجالس فرداً يتقيأ نفسه وآخر متورماً بالغباء والقسوة، تجادل مسؤولاً أحمق او لصاً ارتدى اثواب الفضيلة، يصادر يومك سياسي مغرور او مثقف متخم بالهروب، تشتاق لمشتركات التعقل، تشتاق الى ضفاف المحبة الوارفة، تشتاق الى حوارات بلا مسلمات، حوارات بلا مقدسات، تشتاق الى لحظات غناء بلا مقدمات او تمهيد، تشتاق الى همس يقرب المسافات ويذكرنا بادميتنا. 
لم يبق في العمر ما هو جاد وحقيقي الا هدف اكتشاف الزمن الاصيل والهدف الاصيل، هدف الوصول الى المعنى، وسعادة المشتركات بلا خيبات، او سعادة الغناء على قارعة الطفولة التي استباحها ذبول المعتاد في لحظة انكفاء وهزيمة ذواتنا 
الصادقة.