علي الوردي ونسبية الأخلاق

ثقافة 2020/10/30
...

د. عبدالجبار الرفاعي
 
كان لمطالعاتي المتواصلةِ للكتاباتِ العقلانية النقدية أثرٌ ملموسٌ في إيقاظِ ذهني، وتحرّرِه من الأوهام المتضخمة. لن أنسى أثرَ أعمال علي الوردي وغيرِه من ذوي التفكير النقدي الحرّ في إيقاظِ ذهني، واستردادِ عقلي الذي استلبته أوهامٌ بضعةَ سنوات، لبثَ فيها تأسره مفاهيمُ لا صلةَ لها بحياتي ومعاشي، ولا علاقةَ لها بمشكلاتِ الناس وآلامِهم. كنت عاجزًا عن استبصار العوامل المختلفة المعقدة المكونة للواقع، أحسبُ الواقعَ المركب بسيطًا، أفهمُ ظواهرَ اجتماعية معقدة تنتجها سلسلةُ عوامل عميقة فهمًا ساذجًا، لا أعرف شيئًا عن التفسير العلمي للظواهر السائدة في المجتمع. كنتُ أعتقد أن الناسَ يتغيرون بالمواعظ فقط، فأتقنتُ صناعةَ الكلام، من دون أن أعرف شيئًا من أسرارِ الطبيعة البشرية الدفينة، وأن إصلاحَ ظروفِ عيشهم وإعادةَ بناء وعيهم وثقافتهم هو الذي يتكفل بتغييرهم.
حذّر علي الوردي ممن يريد أن يغيّر الناسَ بالكلام، من دون أن يعرف الطبيعةَ البشرية، ويدرس الظواهرَ الاجتماعية دراسةً علمية، تتعرّف على أسبابها ومكوناتها وآثارها، ويبحث في كيفية الخلاص منها. البشرُ لا يتغيرون بالكلام، وأن ما هو عميقٌ في الطبيعة البشرية لا يمكن استئصالُه، وذلك ما دعا الوردي للشكوى ممن يعمل بذلك بقوله: «لقد جرى مفكرونا اليوم على أسلوب أسلافهم القدماء، لا فرق في ذلك بين من تثقف منهم بثقافة حديثة أو قديمة، كلهم تقريبًا يحاولون أن يغيّروا طبيعة الإنسان بالكلام. وكثيرًا ما نراهم بمواعظهم يطالبون الناس أن يغيروا من نفوسهم أشياء لا يمكن تغييرها، فهم بذلك يطلبون المستحيل. وقد أدى هذا بالناس إلى أن يعتادوا سماع المواعظ، من غير أن يعيروا لها أذنا صاغية».  
علي الوردي يعلن انحيازَه للتطور، لذلك يتكرّر في كلِّ كتاباته التشديدُ على أن كلَّ شيء في العالم يتغير ويتطور، الإنسانُ كائن تفرض عليه بيئتُه ومحيطُه وظروفُه المعيشية نوعَ ثقافته وقيمَه وشكلَ تدينه، بناء على أن كلَّ عصر يمتلك معاييرَه الخاصة للمعرفة والقيم والجمال والزمن وغيرها. يقول هيغل: «العصور المختلفة محكومة بمعاييرها الخاصة». 
حدث تحولٌ في رؤيةِ الوردي للعالَم ومنظورِه للقيم وفهمِه للحياة ووعيه للواقع عندما انخرط في الدراسات العليا في الولايات المتحدة الأميركيَّة، وذلك ما قاده للقول بنسبيةِ الأخلاق، واختلاِفها باختلاف الثقافات والمجتمعات والعصور، كما يصرّح بقوله: «الأخلاق نسبية كما لا يخفى. فما يعدو في نظرهم بريئًا قد يعد عندنا فسقًا وفجورَا. وربما تنقلب الأحوالُ عندنا في المستقبل، فيصبح مقياسنا في شؤون الأخلاق مخالفًا لمقياسنا الحاضر». أبدى علي الوردي دهشتَه من الاختلاط لأحد أساتذته، فأجابه الأستاذ بقوله: «إننا إذا منعنا طلابنا وطالباتنا عن الاختلاط المكشوف لجؤوا إلى الاختلاط المستور بعيدًا عنا، في جو ملؤه الريبة والإغراء. إننا إذ نعترف بما في الطبيعة البشرية من قوى، ونهيئ لها ما ينفّس عنها في جو من البراءة والطمأنينة، نكون بذلك قد وقينا الإنسان من مزالق الشطط ومغريات الخفاء».
  الأخلاقُ ليست كلها نسبية، ما هو حسن بالذات وما هو قبيح بالذات يحكم بهما العقلُ العملي «الأخلاقي». «الحُسن والقُبح» الذاتيان، مثل حُسن الصدق والعدل والأمانة، وقُبح الكذب والظلم والخيانة، حكم الحُسن أبدي لما هو حسن بالذات وهكذا القُبح أبدي لما هو قبيح بالذات، لكن معرفة حدوده في الواقع وكل تطبيقاته وما يصدق عليه في الحياة ينكشف بالتدريج. اكتشافُ مصاديق ما هو حسن بالذات وما هو قبيح بالذات نسبيٌ، بمعنى أن الإنسانَ لا يدرك كلَّ المصاديق، إلا بعد نضجِ عقله وتطورِ وعيه وتراكمِ خبراته عبر التاريخ. الحقيقة الأخلاقية تتكشف بالتدريج للإنسان بمختلف أبعادها وحدودها ومصاديقها، في ضوء تطور علومه ومعارفه المتنوعة، وتراكم خبراته وتجاربه وتنوعها.
  الحُسن والقُبح غيرُ الذاتيين، وأعني بهما كلَّ مالم يحكم العقلُ العملي بأنه حسنٌ وقبيحٌ بالذات. ما كان حُسنهما وقُبحهما لسبب ما خارجَ ذات الفعل، سببٌ يتحقّقُ في مجتمع وثقافة وزمان ما، في مثل هذه الحالة الحُسن والقُبح نسبيان، يزولان بزوال سببهما. ذلك ما نراه في مختلف العادات والتقاليد والأعراف والثقافات المحلية المتنوعة بتنوع المجتمعات، والمتغيرة بتغيّر ظروف الإنسان وأحواله.  
 الحُسن والقُبح الذاتيان النسبيُّ فيهما هو التعرّف على المصاديق واكتشافها. اكتشافُ المصاديق يتأثر بدرجةِ التطور الحضاري وتكاملِ الوعي البشري، تؤثر فيه مختلفُ أنماط عيش الناس، والظروفُ الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية في حياتهم. يدرك الإنسانُ حُسنَ العدلِ بذاته في كل زمان ومكان. العدلُ قيمةٌ أخلاقية وحقوقية تطور اكتشاف مصاديقه بتطور وعي الإنسان بالكرامة والحرية والمساواة، فلم يولد هذا الوعي مكتملًا مع أول إنسان عاش في الأرض. 
تفشت العبوديةُ ولم يصدر تشريعٌ بتحريم الرقِ، مع كل ما يتضمنه الرقُّ من هتك لكرامة الإنسان، إلا قبل أقل من قرنين. الكرامةُ والحرية والمساواة مفاهيمُ تطور اكتشافُ مصاديقها وتحقّقُها بالتدريج تبعًا لتطور الوعي البشري فيها، إلى أن وصلت إلى ما هي عليه في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان.
 الكرامةُ والحريةُ والمساواةُ كغيرها من القيم الإنسانية الكونية، لم يولد الوعي بمصاديقها دفعةً واحدة، بل تطلبَ وصولُ البشرية إلى وعيها بمعانيها المعروفة، والتعرّف على حدودها وتطبيقاتها عبورَ عدة محطات موجعة، وهي تقطع مسارًا طويلًا مريرًا شاقًا مضمخًا بالدماء. تطلبَ ذلك طيَّ مراحل وعرة تطورت فيها عبر آلاف السنين، كي يتحقّق الوعي بحدودها وتتحقّق بشكل واسع في المجتمعات البشرية. كتاباتُ المفكرين والكتاب، وجهودُ المصلحين، وتضحياتُ الأحرار في العالَم كان أثرُها ملموسًا في تكامل الوعي بهذه القيم وتحقّقها بالتدريج في الحياة.
لم يُنظر لاسترقاق البشر على أنه ظلمٌ وانتهاك للكرامة البشرية إلى القرن التاسع عشر. أضحى اليوم يُنظر إليه بوصفه ظلمًا قبيحًا، وانتهاكًا سافرًا للكرامة البشرية. كان فلاسفةٌ مثل أفلاطون وأرسطو وغيرُهما من الفلاسفة والمفكرين لا يقبلون أن يكون كلُّ الناس بمرتبة واحدة في استحقاق الحقوق، رفضوا أن يكون الكلُّ في المرتبة ذاتها في نيل الحق بالكرامة والحرية والمساواة. يرى أرسطو أن العبيدَ طبيعتُهم البشرية العبودية، والأحرارُ طبيعتُهم البشرية الحرية، فاليوناني والأوروبي حرٌّ لأن لديه روح، والآسيوي عبدٌ لأن ليس له روح. جعل أفلاطون في «الجمهورية» البشر طبقاتٍ ليست متكافئةً في المكانة والحقوق والوظيفة، إلى الحدّ الذي وصف فيه كارلُ بوبر أفلاطونَ، في كتابه: «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، بأنه المنظّر للتوتاليتارية والملهم للشمولية. وأشاد برتراند رسل بموقف بوبر قائلًا: «إن هجومَه على أفلاطون، رغم أنه غير تقليدي، هو في رأيي صائب تمامًا».
* الوردي، علي، وعّاظ السلاطين، ص 5 – 6.
  * جيلسبي، مايكل ألين، الجذور اللاهوتية للحداثة، ترجمة: فيصل بن أحمد الفرهود، بيروت، جداول، 2019، ص 19.
*  الوردي، علي، وعّاظ السلاطين، لندن، دار كوفان، ط 2، 1995، ص 9. الهامش رقم (1).
  * المصدر السابق،  ص 9.