يوسف عبود جويعد
إنَّ عملية اختراق التابوات، وخاصة التابو الديني المقدس، والوصول الى قاعه وجذوره الأصلية، بعد أن ملئت بكم هائل من الافكار المتخلفة، والشعوذة والكذب وقلة الوعي، والجهل، والثبات على المعتقد دون تحريك عملية الوعي، ومحاولة تصفيته وتشذيبه والوصول إلى النبع الصافي وتقشيره ورمي تلك الشوائب للوصول إلى مواطن الجمال الإيماني فيه، هو أمر يتطلب جرأة عالية لما يحمل من حساسية وجدل كبير، لمن لا يمتلك القدرة على تحريك الوعي نحو الأحسن والأصح، وأمر استخراج مادة خام منه وتحويلها الى سياق فني قصصي، أمر يحتاج من القاص الدقة والتأني والقدرة على الاقناع، من أجل سحب من توغلوا في هذا الجهل إلى جادة الصواب.
يقدم لنا القاص عزيز الشعباني قصته الموسومة (بُعْدُهُ الميتافيزيقي)، وهي واحدة من النصوص السردية التي تلامس هذا الجانب ويتطلب المرور عليها وتحليلها، من أجل الوصول الى الوعي الفلسفي والديني والرؤية الفنية للجمال الإيماني النقي الذي يخلو من كل تلك المؤثرات التي شوهت صورته وأخلت بمعتقداته الايمانية النزيهة، إذ نجد حالة التضاد والاختلاف بين وعي الاب الجامد، ووعي الابن المتحرك نحو تلك الرؤية، فهو راصد نهم لحياة أبيه المليئة بالكذب والخداع والافكار الهدامة التي تسيء الى نظرية الدين الاصيلة، ولكونه يعيش وسط واقع يحكمه الجهل والثبات غير المتحرك والجامد للمعتقدات؛ فإنه (وأقصد بذلك الأب) الذي يستطيع ان يسحب الكثير من الناس نحو هذه النقطة المظلمة ليطلقوا عليه (الملا) وأحياناً يصل الأمر لأبعد من هذا، وكل شيء عنده يسير بالأدعية والتعاويذ والنصوص القرآنية، التي من الطبيعي أن يشترك معها العلاج العلمي، الذي هو سبب من الاسباب وضعه الخالق للمخلوق، مع بقاء شعلة الايمان متقدة.
وتجدر الإشارة هنا الى قدرة القاص من توظيف هذه الثيمة عالية الوعي إلى حالة يستطيع ان يصل فيها إلى هؤلاء الناس الذين يتمسكون بما هو غير صحيح، باستخدامه لطابع السخرية والحوار باللهجة العامية الدارجة، وعندما يشعر الابن بأن طبلة أذنه تؤلمه ولا يستطيع النوم من شدة الوجع، يطلب منه والده أن يردد معه رقية فيها ادعية تسهم في تسكين الالم، لكن الالم ظل مستمراً ومن خلال إغفاءة يجد في عقله الباطن ما يشير إلى العلاج الناجع والصحيح، وفي الصباح يستيقظ الابن ليجد الأب أمامه:
(في الصباح يعاود أبي مشروع كذبه: ألم أقل ان الله معنا؟
• لكن الله قال لي اشتر «كيفلكس»، يا أبي!)
ومن هنا يتضح الصراع القائم بين الوعي والجهل، فالابن يؤكد وبطريقة ايمانية عالية الحساسية، أن هنالك أسباباً تدعو إلى استخدامها من اجل الشفاء، وأن الخالق أشار اليها حتى في النص القرآني، فتلك النحلة التي يخرج من بطنها العسل الذي حصلت عليه من رحيق الازهار هو شفاء للناس، الذي هو جزء مهم للعلاج، فليس بالدعاء وحده يمكن للإنسان أن يتطبب ويشفى، وعندما يمد الابن يده ويرفع غطاء الخبز لا يجد شيئاً، لكن الاب يطلب منه في المرة القادمة عندما يفتح الغطاء أن يقول بسم الله الرحمن الرحيم، وفي الصباح عندما مد يده بعد ان قال ذلك وجد الصمون الحار:
(اغفر لي يا ابي قلة حيلتي، لم أكن أعرف ان من فوائد الرب ملء العلبة بالصمون!
وأنا ذاهب للمدرسة صادفني صاحب الأفران ابتسم قائلًا: «سلملي على الملّا يا ريت يوميّه يجي يستفتحنه قبل الفجر، اليوم شفنه على وجهه الخير»، وهكذا كان أبي يزرع الأكاذيب في مخيلتي، التي راحت تحوك منها القصص على مرور الأيام).
وهكذا فإن محاولة الأب إقناع ابنه بالاتكال على الأدعية والرقي والشعوذة المتخلفة المقيتة، بينما الحقيقة هي أن نسعى في الارض وناكل من رزقها، وهي الحقيقة الواعية التي يعرفها الابن وربما يجهلها الاب أو يتظاهر أنه يجهلها، لكن الابن يكتشف أن الحالة الايمانية التي تتلبس الاب ينقصها الكثير من المكملات التي تقتضي وعياً كبيراً، فيجب أن يلتصق الايمان النزيه الصافي مع السعي والبحث عن الاسباب العلمية والوصول الى الجذور الخالية من الشوائب:
(في تاريخ أبي المحشو بالأكاذيب هفوات كثيرة، لكن أكبرها على الاطلاق، حين كان يستعرض عليّ قدراته في الفلاحة، يا بنيّ: إذا أردت لشيء أن ينمو ما عليك سوى دفنه في التراب، وكثيرًا ما كان يدفن حصاة صغيرة فتخرج وردة، حين رحل قبل دخول الحرب بغصّة، قد يكون قرأ الطالع فانسحب، دفنته في التراب، امتثالًا لمقولته!
منذ ذلك الحين وأبي لم يخضّر!
يا له من كاذب خبير).