قصة الحضارات

ثقافة 2020/10/31
...

   عفاف مطر
 
 
نرى الآن الكثير من البلدان والشعوب التي تطلق على نفسها (حضارة)، وإذ ما احصينا عدد الشعوب والبلدان في العالم لصار عدد الحضارات الانسانية عدداً هائلاً، لكن؛ إذا اعتمدنا على المعنى الحقيقي والعلمي والأكاديمي لمصطلح (حضارة) لوجدنا الامر على العكس من ذلك تماماً. 
في البداية لا بدّ من التفريق بين الثقافة وبين الحضارة، الثقافة تعني مجموعة من القيم المادية والروحية التي تخص جماعة معينة ضمن حدود معينة، اما الحضارة فهي مركب هائل 
من الثقافات وتعمل في امة واحدة ومكان واحد، وزمان متواصل نسبياً، وتشمل الحضارة عناصر مادية وعناصر 
روحية، وتوازن فيما بينهما الاخلاق، تتحول الحضارة الى مدنيّة حين تجتاز حدودها المحلية والاقليمية لتنتشر الى أماكن اخرى من العالم، ولا توجد مدنيّة بهذا المفهوم سوى الحضارة الغربية التي انتشرت عبر ما يسمى بالعولمة.
هناك فرق بين التحضر والحضارة، ونضرب مثالا على ذلك اليابان، فاليابان قبل 1945 كانت تحسب ضمن المدار الصيني، أي ضمن الحضارة الصينية، لكن بعد هذا التاريخ اصبحت تعمل وفق الطراز الاوربي، لكن اليابان الآن لا تُحسب على الصين، 
ولا على اوروبا، وبالتالي فهي بلد متحضر، لكن لا يوجد شيء في التاريخ اسمه الحضارة اليابانية، وينطبق الامر على البرازيل وغيرها. ولا يوجد عدد كبير من الحضارات كما يعتقد كثير من الناس، في عصور ما قبل 
التاريخ لا توجد حضارات، بل ثقافات وهي لا تتعدى الخمسين ثقافة أساسية مثل القديمة والحديثة والنحاسية .. الخ، أما الحضارة بمعناها الاكاديمي وجدت ما بعد العصور التاريخية، عدد الحضارات القديمة ثلاث عشرة حضارة شرقية وثلاث حضارات غربية، أما الحضارات الوسيطة فعددها ثلاث فقط، أي أنها تناقصت، والثلاث هي الحضارة البوذية والحضارة المسيحية والحضارة الاسلامية، وهي حضارات دينية شمولية، ولا نقول الحضارة اليهودية على الرغم من أن اليهودية هي الدين الأبراهيمي الأول، لكنه ليسا حضارة كما المسيحية الديانة التبشيرية التي دخلت اليها الكثير من امم الشرق والغرب، والاسلامية التي اجتاحت العالم كله تقريبا عبر ما يمسى بالفتوحات، ولا البوذية التي سادت في الشرق الاقصى، أما في التاريخ الحديث، فلا توجد سوى الحضارة الغربية الحديثة.
إذن مجموع الحضارات الانسانية كلها عشرون حضارة. الحضارة الغربية اغلقت الابواب أمام نشوء أي حضارة جديدة، ذلك أن الحضارة الغربية اشتغلت على مدى ما يقارب الخمسمئة عام حتى وصلت الى ما هي عليه الآن، بدأت في أوروبا ثم اميركا التي أصبحت نواة هذه الحضارة، ثم انتشرت الى الدول الاخرى مثل البرازيل واليابان كوريا الجنوبية.. الخ، حتى صار عدد الدول، التي انضمت الى هذه الحضارة خمس وعشرين دولة، لكن السؤال هو: كيف تنشأ الحضارة؟ كيف تتحول دولة ما الى نواة حضارة انسانية؟ الجواب: الأمر مشابه لنشوء الدولة نفسها، فالدولة هي مرحلة حديثة تأتي بعد المدينة، إذ إن المدينة تتطور وتتسع حتى تصبح دولة، ونرى ذلك واضحاً في الحضارة السومرية، فمدينة أريدو وهي أقدم مدينة على الأرض، تطورت واتسعت حتى اصبحت دولة، والدولة تعددت وصارت دويلات متحدة يربطها الدين والملك في المقام الأول، ثم تحولت الى الحضارة السومرية الحديثة، ولكن هل من السهل أن تتحول المدينة الى دولة؟ بالتأكيد لا؛ فهناك عدة عناصر يجب أن تتوافر في المدينة، لتتحول الى دولة، أولها أن تتجاوز مفاهيم متخلفة مثل القبلية والطائفية، أن تحظى بقيادة سياسية وعسكرية قوية جدا، أن تتوافر لائحة قوانين واضحة، إذ لا توجد حضارة ولا حتى دولة تحولت الى حضارة من دون 
قوانين على مدى التاريخ كله، وهذه اللائحة يجب أن تكون مكتوبة وليست شفاهية كما الاعراف، ويجب أن تتوافر النخب 
الثقافية القيادية، وهذه أخطر نقطة يجب توافرها لتتحول المدينة الى دولة، والدولة الى حضارة، فالنخب الثقافية، هي التي تقود المجتمع وليست العامة، فالعامة هم سند الدولة والجيش، لكن القيادة بيد 
النخب الخاصة والمتخصصة في الثقافة والسياسة والاقتصاد والفكر والفنون والعلوم.. الخ بذلك نجد انفسنا امام مدينة تحولت الى دولة قوية متميزة، وهذه النقلة الأولى، أما النقلة الآن كيف تتحول الدولة- أو أكثر- الى حضارة؟ لا يمكن للدولة أن تتحول الى حضارة، فقط لأنها تملك على سبيل المثال، نظاما تعليمياً ناجحاً ومتطوراً، بل يجب أن ينتج هذا النظام التعليمي ما هو جديد، أي يجب توفر شرط الابداع حتى تتمكن الدولة من صنع الحضارة، وهذه الحضارة يجب أن تتميز بنكهة وشخصية خاصة بها، وهذا لا يتم الا عن طريق الهارموني بين العناصر المادية والروحية وهي المكونات الاساسية لأي حضارة، بمعنى أن يكون هناك تفاعل بين السياسة والفنون، الفنون والفكر، الفكر والعلوم.. الخ والميزان، الذي يوازن بين هذه العناصر 
المادية والروحية هو الأخلاق، فلا يمكن لأي حضارة أن تتطور من دون اخلاق، ولأن توافر هذه العناصر كلها نادر الحدوث، نفهم لماذا عدد الحضارات قليل جداً مقارنة بعمر البشرية. 
وبالتالي لا يمكن لأي شعب أو دولة أو دويلة أن تطلق على نفسها حضارة ما لم تتوافر لها الشروط السابقة وتمر بكل المراحل الطبيعية، مهما كررت وادعت في وسائل اعلامها بأنها – حضارة.