عام يجر أذيال الترقب والحسرات

ثقافة 2020/10/31
...

د.عواطف نعيم
لم يكن هذا الذي مرَّ علينا بالأمر السهل، عام لا نستطيع وصفه الا بالعام الصعب، فهو منذ مجيئه فتح علينا أبواب الخوف والحذر والهلع، مدّ حواجز الابتعاد والتباعد والتنكر لكل ما عرفناه وتعودناه وجبلّنا عليه من تقارب وتوادد وتواجد، عام وصفه بالصعب لا يكفي، فقد سلبنا الكثير من المتع البريئة والتواصلات المفرحة والعزيزة وزرع بيننا وبين من نحب مسافات تزداد وتتقاطع وتنأى كلما زاد توحشا وتغولا، هذا عام زاد فيه الهم وتلاشت روح التفاؤل والبهجة وأصبح رؤية العالم الذي كنا نتطلع اليه مبهورين حالمين متمنين مصدر دهشة وتعجب وحذر، حين أمتلأت شوارع أوروبا بالنقود المرمية والتي فقدت قيمتها وحين تناخى البشر عبر النوافذ والشرفات وهم يغنون ويدعون ويبكون كي يمنحوا بعضهم البعض الآخر القدرة على الصمود والتحمل والمقاومة ما عادت أسبانيا والحمرا وغرناطة مبعث حنين وأغراء.
 وماعادت روما وقوارب الحب في فينيسيا جاذبة هامسة بالتوق والرغبة وخفتت جذوة فلورنسا ومنحوتاتها، التي تكاد تنطق بالحياة والانبعاث، ساحرة ومثيرة فقد غطت رياح الخوف والفقدان كل معالم الجمال والمتعة فيها، هذا الذي مر علينا ثقيلا مثل ليل طويل مّد أذيال غطائه فشدها بأوتاد من حديد متجمر لا يرضى أن يتحرك أو يغادر كما وصفه ذلك الشاعر المتمرد أمرؤ القيس. 2020عام لا يوصف من هول صعوبته وضراوته، فهو وبقدرة لا تقل قساوة عن ساعاته الثقال جعلنا نكره حتى وسائل التواصل، التي حولت العالم الى قرية صغيرة، حتى ماعاد هناك ماهو عصي على المعرفة، كل ما تسعى لمعرفته يكن بين يديك من خلال مواقع التواصل التي غصت بها حياتنا وتغلغت بين جلودنا، بكبسة زر صغير تعرف ما يدور في شمال الكرة الارضية أو في جنوبها أو في سمائها أو في أعماق محيطاتها أو في سحيق باطنها، ما عادت لدى البشر الطاقة لكي يشاهدوا تساقط الناس في الشوارع والطرقات وكأنهم يفرون من مجهول يطاردهم فيتفاجؤون به أمامهم يصفع وجوههم ويجبرهم على التداعي والانهيار، هذا عام مر علينا ولما يزل يجر أذيال ردائه الشائك وكأنه عازم أن يطيل أمد غلق أبوابه وطّي صفحات أيامه !! والبشر في حيرة من أمرهم يتسألون ما الذي يحدث ؟ من فتح علينا صندوق ( بندورا ) وأطلق بيننا وحشه المصنّع يصول ويجول ويتحول ويتقلب ويراوغ ويتنكر ويحصد من البشر ما شاء له لهوه وجشعه ونهمه الذي لا يتوقف، ونصاب بالخيبة ونحن نرى دولا تتهم دولا وحكومات تسعى للنيل من حكومات وتبادل للاتهامات والدعوة لإيقاع عقوبات وأعداد الاصابات تتصاعد وأطباء وعلماء يتبارون للاعلان عن اكتشافات للقاح تحمي حياة البشر وتبعد عنهم شبح الموت والغياب القسري من بين أحبابهم وأحلامهم، ومنظمة الصحة العالمية تدلي بتصريحاتها المتوترة والمتخبطة احيانا مما يثير ويفاقم حالة الهلع والاحباط بين الناس، متى نستيقظ من هذا الكابوس، هو ليس كابوسا عاديا يجثم على صدور فرد دون آخر أنه كابوس خانق يجثم على صدور شعوب العالم أجمع، كابوس يجعل الحياة بكل تجلياتها وبكل ما خلق الرحمن فيها من تنوع والوان واختلافات ومسرات وجمال لا تعني شيئا ولا تمنح أمنا ولا تنهض رغبة أمام رعب سكن القلوب واحتل العقول وصار لصيقا بنا ويعيش وسط أسرتنا وبين ثيابنا ويكبل ارادتنا ويحجّم طاقاتنا!
ويوجف القلب حين ينبعث صوت مقدم أو مقدمة النشرة الاخبارية على كل المحطات الفضائية وهو أو هي يدلي بالارقام التي تعلن أعداد الاصابات في هذا البلد أو ذاك وأعداد الوفيات، أو يعلن غلق المطارات وتوقف رحلات الطيران وغلق الحدود ومنع التجمعات أو اعتماد مناعة القطيع، أي أن يتحمل الفرد مسؤولية حماية حياته، وتتقافز أمام عينيك عبارات ملونة حرص من قام ببثها أن تكون لامعة براقة جذابة، وهي تدعوك للبقاء في البيت وكأن البيت قد تحول الى سجن، لا بدّ من البقاء فيه أيا كانت الحياة التي تدّب فيه وتحت سقفه، والتأكيد على لبس الكمامة وغسل اليدين لأكثر من ثلاث ثوان وهنا تمثل أمامك (الليدي مكبث وهي تعمل بكل ما اوتيت من خوف وغلظة على تنظيف يديها من دماء ضحيتها البريئة) و تعمد الى تعقيم كل ما حولك من أشياء ومواد والحذر من التعامل بالاوراق النقدية، لأنها قد تكون إحدى الوسائل لنقل العدوى ويصبح الراتب الذي يحلم به الموظف والمتقاعد وينتظره بصبر رغم تأخره وبطء وصوله مصدر خشية من الوباء ونقل العدوى، هذا عام صعب نخشاه حد الدعاء همسا أن يأتي العام الجديد ليزيحه وينفض عنا نحسه.
(كورونا ) عنوان لفيلم رعب أصبح معروفا ومتداولا ليس بين الكبار فقط، بل حتى الاطفال لاسيما الذين في مراحل الدراسة الابتدائية والذين تحولت الدراسة لديهم الى( أون لاين )، عام صعب أنسانا الكثير من المطامح والعناد والمطالب وجعلنا نغض الطرف عن الخروقات والتجاوزات ليس فقط على ما نحب ونحفظ، بل عما نريد ونحلم، ليس صعبا أن ترى وتكتشف أن البعض من الاطباء والصيادلة والمحنكين في مجالات الربح واللعب على حبال قوت الناس ورزقهم قد تحولوا الى متاجرين وصائدي فرص بصحة الناس ورغبتهم في الدفاع عن حياتهم وحياة أسرهم، لكن بالمقابل كان هناك من الاطباء والعاملين في مجال الصحة من كان طوقا للنجاة وبلسما للاوجاع ورحمة للمرضى والخائفين وكانوا بحق المصد الاول للدفاع والحفاظ على حياة البشر، هو عام 
صعب من فضائله أنه جعلنا نعرف أن ما نملك على بساطته لهو عزيز وغال، لأنه بين أيدينا وأن ما منحه لنا الخالق من نعم لهي ثروة 
لا ينبغي لنا التفريط بها وأن الحياة التي لم نكن نرضى عنها أصبحت الآن عزيزة لدينا ومشتهاة عندنا وندعو لكي تعود ونتوسل، لكي ينزاح هذا الكابوس ونصحو منه، ونتوق الى خبر مفرح يصلنا يبشرنا بأن القادم سيكون أكثر رحمة بنا من هذا العام المر والثقيل حد الرعب، هذا عام صعب لكنه لم يفقدنا ثقتنا برحمة الله الواسعة وقدرة الانسان المؤمن بقيم الخير والعدالة، لكنه والحق يقال هو عام صعب ومرير.