ينقل الراغب الأصفهاني في كتابه (محاضرات الأدباء) عن عبدالله بن طاهر قوله: «آفة الشاعر البخل، لأنه يقول خمسين بيتاً وفيها بيت رديء فلا يحتمل قلبه أنْ يسقطه»، وعبدالله بن طاهر لم يكن ناقداً أدبياً، كان قائدا عسكرياً عزز وحدة الدولة، وكان سياسياً؛ والياً ثم حاكماً لإمارة خراسان الطاهرية التابعة للدولة العباسية بما يشبه النظام الفيدرالي المعاصر.
لكن ابن طاهر، مثل كثير من سياسيي ذلك العصر الذي عاش فيه (العصر العباسي)، كان مثقفاً وثاقب النظر في الشعر. كان يؤلّف الشعر، ولكن لم يبدع به، ولم يحترفه، فمن طبائع الشعر الغريبة أن المعرفة به لا تفضي بالضرورة إلى الإبداع فيه.
هذه الجملة، التي ينقلها عنه مؤلف (محاضرات الأدباء)، تأكيد على وعيه الشعري، وهي بالتالي تأكيد، لقدرته على الفصل ما بين الشعر في القصيدة وما يرافق الشعر من حشو لا مسوغ له، وذلك من منظوره الشخصي.
المراد بالحشو الفائض عن اللزوم في الشعر هو غير الحشو اللازم، لاتمام واكتمال الصياغة الإبداعية للبيت الشعري، أي غير عروضه وضربه. بموجب لسان العرب لابن منظور فإن الحشو من الكلام هو الفَضلُ (الزائد) الذي لا يعتمد عليه، وكذلك هو من الناس، فحُشْوةُ الناس: رُذالَتهم. وهو غير الحشو الذي يعاد الكلام بموجبه أكثر من مرة من دون داعٍ، ما يتحدث عنه عبدالله بن طاهر هو وجود بيت (في قصيدة العمود)، وجملة (في الشعر الحديث)، وحتى أبيات أو جمل في القصيدة الواحدة لا قيمة لها سواء تعبيرياً أو جمالياً، إنها نتاج الرغبة في التطويل وكثرة الكلام، وبما يقرب من الليغوريا، (الهذر)، فكل هذر هو كلام فائض عن اللزوم يمكن حذفه والاستغناء عنه. وما يمكن حذفه في أي نص، أدبي وغير أدبي، ومن دون خسارة جمالية أو تعبيرية لغيابه، هو حشوٌ وبالتالي يمكن أنْ يكون هذراً.
نظرياً يبدو من غير المتوقع أن يَقدم شاعرٌ على كتابة ما يعتقد أنه حشو فائض عن اللزوم. لكن عملياً يمكن مصادفة الكثير من القصائد لمختلف مستويات الشعراء مما تحمل في متونها أبياتاً أو جملاً يمكن فعلاً حذفها من دون تأثير في بناء القصيدة، بل في أحيان كثيرة يكون الحذف ضرورة فنية وتعبيرية يقتضيها جمال القصيدة ويتطلبها صفاء انسياب المعنى الشعري وتخففه من أثقال وأعباء تلك الفوائض. وفي معرض توسعة معنى الكلمة يستدل ابن منظور بما حكاه علي ابن مبارك اللحياني، وهو نحوي كوفي، :» ما أَكثر حِشْوَةَ أَرْضِكم وحُشْوَتها أَي حَشْوَها وما فيها من الدَّغَل»، والحشوُ في قصيدة هو دغلُ حدائقها. لا يتعمّد شاعر إنبات هذا الدغل، لكن هناك من يبقيه غير عابئ بالوحدة الجمالية للقصيدة، بينما هناك من الشعراء يتقن مراقبة قصيدته، أصحاب الحوليات وسواهم من مهرة الشعراء كثيرون.
كان نقاد العرب وبلاغيوهم ومثقفوهم المهتمون بالشعر يحثّون على تنظيف القصيدة من أدغالها، إشارة عبدالله بن طاهر عن بخل الشاعر تأتي في هذا السياق، برغم أنها تبدو إشارة مازحة، لكن أبا هلال العسكري لا يمزح في أثره المهم (كتاب الصناعتين) حين يؤكد الشاعر، أي شاعر، بما يلي:» فإذا عملت القصيدة فهذّبها ونقّحها؛ بإلقاء ماغثّ من أبياتها، ورثّ ورذل، والاقتصار على ما حسنَ وفَخم». ويعزو أبو هلال بموجب هذا قِصرَ كثير من قصائد أبي نؤاس إلى أنه» يعمل القصيدة ويتركها ليلة، ثم ينظر فيها فيلقى أكثرها ويقتصر على العيون منها؛ فلهذا قصر أكثر قصائده»، مشيراً إلى أن البحتري كان هو الآخر» يلقى من كل قصيدة يعملها جميع ما يرتاب به فخرج شعره مهذباً». وبخلاف تعميم ابن طاهر فإن العسكري بهذا يؤكد عدم بخل البحتري وأبي نؤاس من خلال غنى موهبتيهما وذائقتيهما وبإلقائهما ما يرتابون منه من أبيات قصائدهما.
يروي البحتري أنه كان» فى مجلس فيه علىّ بن الجهم؛ فتذاكرنا الشعراء المحدثين؛ فمرّ ذكر أشجع، فقال فيه عليّ: ربما أخلى. فلم أدر ما قال؛ وأنفت من سؤاله عن معناه. فانصرفت إلى منزلي فنظرت في شعر أشجع، فاذا هو ربما مرّت له الأبيات مغسولة خالية من المعاني واللفظ [فعلمت] أنه أراد ذلك، ومعناه أن الرامى إذا لم يصب من رشقه كله الغرض بشيء قيل أخلى فجعل ذلك قياسا». يسوق أبو بكر الصولي هذه الواقعة في كتابه المهم (الأوراق)، حين كان بموضع الحديث عن شعر أشجع السلمي، وهو شاعر عباسي محدث، تقرّب من هارون الرشيد حتى صار شاعر الخليفة. كانت مناسبة الصولي لذلك ما حصل لأشجع حين كان يقرأ بحضرة الرشيد قصيدة، وقد جاء فيها البيتان:
وعلى عدوّك يا ابنَ عمّ محمّد
رصدان ضوءُ الصبحِ والإظلامُ
فإذا تنبّه رِعتَه وإذا غفا
سلّت عليه سيوفَك الأحلامُ.
استحسن الرشيد البيتين، ووقف عندهما، وقد كان متكئاً فاستوى جالساً، حتى أنه تناقش والشاعر بصددهما باحثاً عن (مصدرهما)، فدائما ما تجابه الأبيات المستحسنة بشبهة الأخذ أو السرقة. يعترف السلمي بهذا ويحيل البيتين لبيت النابغة الذبياني:
فإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلتُ أن المنتأى عنك واسع
بينما أحال الخليفة البيتين إلى كلام الأخطل لعبد الملك بن مروان وقد قال له: أنا مجيرك من الجحّاف. فقال: من يجيرني منه إذا نمتُ؟ وهو أقرب إلى معنى البيتين في استفادتهما
الخلاقة سواء منهما أو من بيت النابغة الشهير.
كان بين الحضور مَن ينحاز لأشجع ويتعصب له قبلياً، فأومأ له أن يكتفي بهذا ويتوقف عن قراءة ما بعدهما ليضمن بقاء الخليفة على إعجابه، لكن الشاعر استمر. كان أشجع السلمي بخيلاً فلم يستغن عما بقي من أبيات حتى فترت صلة الخليفة بالقصيدة وانصرف باهتمامه الجاد عنها، يقول ذلك المتعصب، في معرض سرده للصولي النصيحة التي زهد بها الشاعر، واصفاً الرشيد بأنه:» كان عالما بالشعر»، حيث ينبه العالم بالشعر على ما لم ينتبه عليه الشاعر البخيل الذي لا يحتمل قلبه إسقاط ما يجب إسقاطه من حشو الكلام.