قصتان قصيرتان جداً

ثقافة 2020/11/01
...

   أنمار رحمة الله
الخِزانة
ذات ليلة حين كانت غرفة المنام شبه مظلمة، وعائلتي يغطون في نوم عميق، فتحت عينيّ وإذا بزوجتي تحدّق في وجهي. هذا ما لاحظته حين طالعت وجهها الذي سقطت عليه إنارة الحجرة الباهتة. في البدء كَسَتْني قشعريرة خفيفة، لكنني تمالكت أعصابي وخاطبتها «ما بكِ عزيزتي.. هل هناك شيء؟!». فلم تنبس بكلمة ثم سارت صوب فراشها لتنام. تكررت الحالة حتى أنني لم أعد أهتم كثيراً. أطالعها وهي تنظر إليَّ طويلاً، بعينين تفتشان عن شيء يبدو كان ضائعاً في ملامح وجهي. وكلما سألتها ما بكِ هل هناك شيء في وجهي يثير اهتمامكِ؟! تشيح عني وتكمل عملها المنزلي أو مساعدة الأطفال في إنجاز واجبهم المدرسي. وحين كبر أبنائي الثلاثة، تركت تربية البنتين لأمهما، وصرت أهتم كثيراً بالولد. لعله العرف البشري السائد هو ما دفعني لهذا، البنات للأم والأولاد للأب. على أية حال كنتُ أعلّم الصبي الكثير. فلولا تدخلي ذات مرة وصراخي منبهاً له، لحدثت كارثة حين تسلق باحثاً عن شيء فوق دولاب خشبي كبير. صرخت باسمه فانتبه وصار يطالعني كأمه من غير أن ينطق بكلمة. 
يجب على الأب بالطبع التدخل لحماية عائلته، وهذا ماكنت أحرص عليه معهم، غير أن بعض الأمور التي تحدث لا تبعث الراحة في المزاج. ففي ليلة عيد ميلاد ابنتي الصغرى التي أحبها كثيراً، كان أبنائي كلهم يغنون واطفؤوا الشموع، وأنا أنظر إليهم سعيداً، لكن زوجتي كانت تنظر لي النظرات ذاتها وتبكي. غريب أمر هؤلاء النسوة، لا أحد يستطيع التنبؤ بمشاعرهن، فقد يبكين ساعة الفرح ويضحكن ساعة الحزن. ولم تكن هذه المرة الأولى التي بكت فيها زوجتي، فذات يوم تأنقت وخرجت من المنزل لموعد لم أعرف سره، وكانت غبرة الحزن تكسو وجه ابني البكر وهو يحتضن أختيه. وحين عادت صارت تنظر إليّ ودموعها تجري على خديها كساقيتين. ثم حدثت أشياء غريبة لم أستطع فهمها بعد خروجها الأخير من المنزل. تبدل العفش ودُهنت غرفة المنام بلون جديد، ثم حضر رجل غريب لا أعرفه وعاش مع عائلتي. فصاروا ينظرون له ويكلمونه ولا يكلمني أحد، يداعب زوجتي فتضحك، ويدرس أبنائي الواجبات اليومية، وينام معها على السرير الجديد، وأسمع أصواتهم في الهول وأحاديثهم حول المائدة. لم أنس ملامح وجهه، فقد وقف أمامي ذات مرة وصار ينظر إليّ بريبة. ومنذ ذلك الوقت حين أنتبه إلى وجودي هذا الرجل الجديد وكما يبدو أنني أزعجته، لم يعد أحد يحدّق في وجهي أو يبكي كالسابق، لأنني قد رُكنت لاحقاً في جوف خزانة عتيقة في غرفة الأغراض القديمة. ومن حسن الحظ لم أكن وحدي هناك، فإحدى الأمور التي خففت من وحشتي أنني التقيت أبي وأمي وبعضاً من أقاربي، كانوا مركونين في الخِزانة قبلي.
  
 
قرْقَرة
بعد أن اِطمأن في جلسته أخرج سيجارة. أشعل طرفها ثم راح يطالع الدخان المنبعث منها، وجمرتها المتقدة، ثم تمتم محدثاً نفسه:
سأركلُ المدير والآخر الموظف الماكر الذي يتملق إليه. لن يستمر الحال هكذا. بعد أن تسلّل هذا المدير البليد إلى منصبه بمساعدة أحد أقاربه المتنفذين، صار يمارس علينا هيمنته! يحسب نفسه قائداً في معركة وهو لا يعرف الكلام حتى.. أما هذا الجار الجديد الذي احتل الشارع بعصابته، لن يفلت من عقابي اليوم. ماذا يعني أن يقطع الشارع هو وأبناؤه ليمارسوا فيه ما يشاؤون؟ لقد رفعوا الأزبال من بابهم وكوموها أمام منزلي. لهذا سيكون لي حساب معه شديد وقاس.. نعم.. يجب أن يعرف كل شخص حدوده. فإن سكت لهذا وذاك سيتطاول عليّ حتى الصبية الوقحين. ثم كيف يبيعني بقّال الحي الخضراوات الفاسدة التي تركد عنده؟ سأذهب إليه هو الآخر وأضربه بالعيار على رأسه.. لن أسمح لأي شخص بالتعدّي عليّ، ولن أمنحهم فرصة لاستغلالي من الآن وصاعداً.. ولن ينتهي الأمر عند الغرباء، بل حتى عائلتي. لن أمنحهم الفرصة لاستغلال طيبة قلبي وخضوعي لهذا الحد. لقد تمادوا في طلباتهم وأوامرهم ونواهيهم، كأنني عبد أعمل عندهم.. نعم سيكون لي موقف صارم أمام كل شخص أعرفه أو لا أعرفه، قريباً كان أو غريباً، صديقاً كان أو عدواً. عليهم أن يعرفوا جيداً أن هذا القط الأليف قد تحول إلى ذئب خطير. قليلاً من الفظاظة والغلظة لن تؤثر على صورتي، بل ستزيد من هيبتي أمام هذا المجتمع الذي لا يحترم سوى القوي المتغطرس.. سيكون هذا ولن أتنازل عن حقوقي وفرض احترامي بالقوة.. نعم.. نعم..
أنتبه إلى سيجارته بعد أن شمّ رائحة عقبها المحترق، بعد أن زحفت الجمرة نحوه، فرمى بها على الأرضية الرطبة فانطفأت فوراً بملامستها الأرض. ثم نهض من مكانه مرتباً ملابسه، قبل أن ضغط على زرِّ «السيفون» المركون وراء مقعد المرحاض.. فتح الباب وخرج تاركاً وراءه صوت قرقرة الماء النازل في البالوعة.