قصيدة السيّاب تعجب بها من القراءة الأولى، ليزداد إعجابك بها كلّما قرأتها، تشع وتتعمّق خضرتها كأنها شجرة معمّرة، أو غابة نخيل تنظر وترى، قصيدة تخاطب العقل، وتدفعه الى التأمل، ترتفع به وتحلّـق معه، قصيدة شاعر قوي، تتوقد معه شعلةُ الحياة، كلّ شيء يتحول عنده الى شعر، الى كتابة يختلط فيها ليله ونهاره، نوره، وظلامه، فلا تفرق أو تحاول أن تفرز بينهما، فهو يكتب سيرته، أو سيرة الحياة بأكملها، يعيدها لنا بصورة جديدة ومختلفة، وكأنها سيرة لكلِّ القرّاء الذين لم يلتفتوا الى تدوينها، قصيدة تجد فيها المعنى العميق بطبقاته، فتأخذك وأنت تكرر قراءتها لتكتشف كل مرة معنى جديداً، هذا ما أجده في تجربة السياب بكليتها، ما تولده قصيدته في النفس من رؤيا، لا على مستوى المضامين، بل الفضاء الذي تفتحه في ما وراء الموت، لا أستطيع أن أتخلص من هذا الفضاء المنفتح عندما اقرأ قصيدته، تلك اللحظة الأولى للتأسيس، لحظة الفضاء المنفتح بصورة مدهشة وبارقة، في نسيج الكلمات والصور والنشيد، تنفتح هذه الرؤيا وتنبثق في أبعاد غامضة مجهولة، في ما وراء الموت والحياة المستبدين والمهيمنين في قصيدة السياب، هذه الأبعاد الرؤيوية ليست حاضرة هنا، لكن الإشارة إليها قائمة في نسيج الكلمات، تجذبنا، وتنادينا جميعا، لا تفرق بين أعراف وثقافات وأيديولوجيات ومعتقدات، عبر الهزة التي تحدثها فينا، أولا كعراقيين، لكنها تذهب أبعد من ذلك وتعطينا نوعا من التمرّد واليقظة التي يجب أن تكون كلية وعامة، عامة بالمعنى الكوني، وكلية بالمعنى الامتزاج الشعري والمعرفي، أي الرؤيا.
إنها فضاء مفتوح، وعالم أكثر انفتاحاً، هذا العالم المنفتح، تجد فروقاتنا فيه موقعا لها، لأنها تشملها، بل تمتصها، هي قصيدة تدعونا جميعا وتتحدث معنا على الفور، غريب على الخليج، هو أنت، وهو أنا، والأنشودة هي أنشودتنا، وأنشودة كل إنسان يدعوه المستقبل لفضاء غامض مجهول غير متوقع يحس فيه أن كل شيء هو غيره، ويبدو جديدا بالنسبة للحظتنا الشاردة توا، وقد تخلخل الزمن مترنحا تحت تأثير اللحظة المقبلة، هذا التأثير هو هزة للحظة التأسيس لحظة الفوز بالخلاص، وفي الزمن ذاته هي لحظة مبتكرة ومحررة مجددة في حضور آخر ينتظرها، حضور الناس في الزمان، والناس في العالم، والناس فيما بينهم، لحظة لا تزال غامضة لكنها حقيقية تدعو وتوحد وتنتصر للحياة والموت معاً، تنتصر للأرض.
لحظة هي عالم وفضاء، وهي نقيض لعالم الفكرة فنحن منذ ألف عام قد سقطنا تحت تأثير الفكرة، ولقد أعطت هذه الفكرة بفعل تحولات كثيرة التاريخ بخيره وشره، دمه وقتله وظلمه.
إن لحظة السياب التي تتجلى في قصيدته، هي صوت وهزة تدعونا إلى تخطي الفكرة التي تستند الى القوة دائماً، على السيف والفتك. أما الفضاء المفتوح الذي تقدمه لحظة السياب لرغبتنا وحياتنا هو نقيض القوة والطغيان، فضاء المرح والخصوبة، فضاء تموز، فضاء الرقص والفتوة، إنها لحظة الحب، وعالم الرغبة، وهذا من أعمق الأشياء أليس المحبة سيدة الوجود وسببه، والرغبة أقوى حقيقة بين الحقائق، يبدو لي أننا تعبنا من الفكرة وقد آن الأوان لحلول كلام الشعر بعد أن تم الإفراط في الخطاب النسقي من أية جهة جاء، من الفلسفة أو اللاهوت أو السياسة أو العلم أو التكنولوجيا، ألم يقل باشلار صاحب العقل العلمي على العلماء أن يتعلموا من الشعراء، ألم يرتعد صاحب النظرية النسبية لهول ما اكتشف وأدرك الخطر الكبير الذي يهدد الإنسان، فيتبرأ من العلم ويلوذ بالفن والشعر ويعدهما ملاذا أسمى من التفكير الآخذ بقواعد الرياضيات. أما هايزنبرك الذي قررت نظريته مبدأً كميا للايقين واللاحتمية،
نراه يستنجد بالحدس لمؤازرة العقل ويعلن "إن الخيال هو الحقل الحقيقي لانتعاش المفاهيم العلمية"، ويذهب به الأمر إلى المناداة بحق العالم في اللواذ برؤية فنية شاملة إلى الأشياء حين نقف على كل هذا أليس من حقنا أن نجعل للأداة الشعرية ما للأداة المنطقية من علمية؟
أن موقفي هذا لا لأني أتبنى الشعر هوية لي، ولكنني أجد كل شيء يحيطنا،
يقودنا بالضرورة للشعر، إن اللحظة التي فتحت لي هذا الفضاء، هي لحظة متحولة تكمن في الدرجة الأولى في الخصائص العالية التي تتمتع بها قصيدة السياب من هنا أحييها لدورها التأسيسي والريادي الذي قامت به، لقد تعلّمت من السياب كيف أكتب قصيدتي الجديدة، لذا تراني لا أسعى إلى إنتاج الكتب الشعرية ذات المناخ الشعري الواحد المتشابه، تعلّمت من السياب كيف أبني قصائدي واحدة تلو الأخرى،
لإيماني أن الذي يعمر من هذا الكم الشعري الهائل لا يتجاوز عدد الأصابع التي كتبته، قصائد قليلة تبقى، ستعمر طويلا، أنشودة المطر، وغريب على الخليج، والنهر والموت، والمسيح بعد الصلب،
والمومس العمياء، وغيرهن من عمارة السياب، أقول عمارة، إشارة لهذا البناء المعماري الفذ لبعض قصائده،
وما لقائي معهن إلا لقاء افتتان وخصوبة، سيبقى السياب بلحظته الأولى وفضائه الذي فتحه يشغل موقعه بجدارة.
علاقة السياب بالتحديث علاقة موازية لتطلعاته الرؤيوية لما كان يتحرك فيه العالم من زوايا نظر جديدة لأزمة الإنسان داخل جغرافيته وتواريخه وكلامه. جاءت لحظة قصيدة التفعيلة ممكنة الحدوث على مستوى الشكل، التغيير الذي قام به السياب أحدث تغييراً كبيراً في قلب
الذاكرة العربية الشعرية التي اعتادت التمايل لقرون طويلة على نقرات البيت الشعري بصدره وعجزه وقافيته، مع هذا التغيير انتقلت قصيدة السياب الى نوع جديد من التأمل العقلي العميق يرفقه صمتٌ صاخب في الأعماق، وهنا تكمن المفارقة اليوم أننا نملك وثيقة حديثة نريد أن نقرأها في أتون واقع يحاصره أزيز الرصاص والديناميت وصليل سيوف الذباحين.
لحظة السياب تاريخية وكبرى، وقد نُظر إليه عبر الجهد النقدي المُرافق لتجربته الشعرية، بوصفه مُحوّلا كبيراً لمجرى نهر الشعر العربي.