الحَبْك «التَّماسك المعنويُّ» وتفسير النص الدستوري

آراء 2020/11/01
...

  محمد الشحتور
 
 
الحبك أحد المعايير الرئيسة في علم لغة النص وهو ما تنطوي عليه تشكيلة المفاهيم والعلاقات من تواصل ووثاقة صلة متبادلَين ( مدخل إلى علم لغة النص: ديبوجراند ودريسلر)، فهو تنظيم النصِّ دلاليًّا (حبك النص: محمد العبد)، ويتَّكئ على إيجاد وسائل استمرار الاتصال والترابط المفهومي (نحو النص: عفيفي)، وتقترب هذه المعاني كلُّها من المعنى اللغوي للحبك؛ فهو بحسب (الفيروز أبادي) الشَّدُّ والإحكام وتحسين أثر الصنعة في الثوب.
وقد شهد المصطلح تباينا لدى الدارسين؛ فوقع اختلاف في ترجمته؛ فهو (الالتحام؛ والتقارن؛ والتماسك؛ والانسجام؛ والتماسك الدلالي أو المعنوي؛ وهو الحبك أيضًا)، وهذه تسمية من التراث العربي. 
وكلَّما كان النصُّ الدستوريُّ مُحكَم الدلالات مترابط الأجزاء متَّصل القضايا، بحيث ينتج معنىً عامًّا مفهومًا، شكَّل وحدة اتِّصالية مع المتلقي الذي سيتفهَّم الحكم الذي أراده المشرِّع بيسر؛ ثم يطبِّقه على الوجه الصحيح، فالحبك هو الذي يمنح النصَّ دلالته، والمتلقي مستمعًا أو قارئًا هو الذي يحدِّد ما إذا كان النصُّ مفهومًا أو غامضًا، فيفسِّره منتقلًا من البنية السطحية الصغرى وهي الروابط المتجسدة في ظاهره إلى البنية العميقة الكبرى، المتمثلة بدلالته، وتحليل النصِّ يعتمد على تحليل هاتين البنيتين عبر تتبُّع شبكة العلاقات داخل النص، والربط بين سلسة القضايا، ثم التوصل لوحدة مفهومية عليا، هي المعنى العام المقصود، ويمكن أن تمثله المبادئ الأساسية للدستور.
وهذه العلاقات التي يقوم عليها الحبك هي علاقات قَضَويَّة طويلة ومعقَّدة تتعلق بعالم المفاهيم المنطقية المقتنَصة من دلالة النص نفسه.
وقد بيَّن بعض العلماء منهم (فان دايك) جملة من المبادئ والستراتيجات للتأثير في المتلقي، يهمُّنا منها أنَّها توجب الوضوح عبر الالتزام بها كي يصل قصد النصِّ إلى المتلقي بلا غموض يذكر.
 ومناط تفسير النصِّ القانونيِّ قائم على الغموض والإبهام؛ فمتى كان النصُّ واضحًا معبِّرًا عن مراد المشرِّع انتفت الحاجة إلى تفسيره (أصول سن وصياغة وتفسير التشريعات، عليوة مصطفى فتح الباب)، لتيسُّر فهمه القائم على وضوح الدلالات والتحامها المنطقي؛ لذا تحتاج النصوص المهمَّة إلى صاغة أكفاء لسبكها وحبكها، وفي حال اختلف الأمر وضعف النصُّ لجأنا للتفسير عن طريق مفسِّرين ذوي مهارات وخبرات خاصة ومتنوِّعة (لغوية، فكرية، ثقافية، قانونية)، وبخاصَّة أنَّه قد تتعذر العودة للمشرِّع الدستوري الذي كتب النص ليفسره؛ لأنَّ المشرِّع أكثر من واحد، أو كثيرين كما هو الدستور العراقي، لذا يتعيَّن وجود مفسِّر محايد، ولتفسير النصِّ القانوني مدخلان ( آراء في القانون: اونريه)
1 - التَّفسير اللُّغويّ: تفسير نصّي؛ أي يعطي الأولويَّة للغة النص الاعتيادية، ألفاظه وعباراته، وهو تفسير حرفيٌّ غير مرن.
فقد تتخلَّل النص الدستوري ألفاظ أو عبارات غامضة؛ لا حدود دلالية لها؛ فتثير الَّلبس؛ ومن ثَمَّ تقود لتفسيرات خاطئة؛ تنتج عنها تطبيقات خاطئة، ودور المفسِّر هنا هو إزالة اللَّبس والغموض توصُّلا إلى قصد المشرِّع، فإذا كان الوضوح في اللغة الاعتيادية أمرا مطلوبا فإنَّه في اللغة القانونية أهمُّ وآكد؛ لأنَّه أمر حيوي، عليه يتوقف إثبات الحقوق أو ضياعها، ومن الطبيعي أن للدستور الأولوية العظمى، لأنَّه الأهمُّ بين القوانين.
2 - التَّفسير المنطقيُّ: تفسير استنباطيٌّ؛ يعطي الأولوية لأهداف التشريع أغراضه والحكمة منه، وفيه يجب أن يأخذ المفسِّر بعين الاعتبار الأهداف العامَّة للتشريع الدستوري وغاياته العليا، متفحِّصا التشريع بأكمله، وفي حال عارض التفسير المنطقي تفسيرًا لغويًّا أخذنا بالأوَّل؛ لأنَّه الأقرب لروح القانون وغاياته؛ فله أهمية أكبر، وبه يتحقَّق الحبك، ومن ثَمَّ نصيَّة أيِّ نصٍّ.
وقد تتصدَّع البنية الدلالية للنص الدستوري بسبب تعارض أو تناقض يقع بين مادتين أو أكثر، أو في المادة الواحدة، فيهتز البناء المنطقي للنصِّ، وقد يتهدَّم؛ فيؤدي لسقوط الهدف المنشود من الدستور، وهو تحقيق العدالة وتنظيم شؤون الدولة ورعاياها، فضلًا عن إفهام المخاطَبين بأحكامه؛ لذا كان لزاما على المشرِّع أن يُحسن حبك النص الدستوري، وكلَّما كانت البنية الفكرية والمفاهيم التشريعية حاضرة متماسكة في ذهن المشرِّع كان النص محبوكًا متماسكًا، وكان أيسر فهما للمتلقي، ومن ثَمَّ يكوِّن وحدة اتِّصالية بين المشرِّع والمشرَّع لهم.
والأساس في معرفة دلالات النصِّ الدستوري وتفسيره هو النظر فيه، فإن كان واضحا قطعيَّ الدلالة أخذ به بلا تغيير، وإلا أُوِّل على وفق الحكمة من التشريع.
وفي هذا الشأن يمكننا الوقوف على نوعين من النصوص الدستورية، أحدهما النصُّ المَعيب، والآخر النص السليم.