ارتدادات الذاكرة الشعبيَّة

ثقافة 2020/11/02
...

  د. فارس الفايز

تؤدّي المتغيرات السياسيَّة، وما يلحق بها من تحولات في البنى الاقتصادية، والأيديولوجية، والثقافية، إلى تشويش الذاكرة الشعبية، بل أحياناً كثيرة تعمد الأنظمة المتسلطة إلى تقويض أساسات هذه الذاكرة، إمعاناً في محوها وطمسها إلى غير رجعة، ساعية في الوقت ذاته إلى غرس سلوكيات جديدة، تدخلها - الأنظمة - في صميم الوعي الشعبي، وتجعلها المهيمنة.

من هنا يتم هدم الأبنية القديمة ذات الألفة في أذهان الناس، ورفع النصب التي تنطوي على حس رمزي، وإهمال الشوارع المفتوحة على بوابات حضارية، واستبدال الأسماء التي تستدعي التاريخ، والأحداث التي تحول دون الغايات المضمرة لتلك الأنظمة، وسواء أعملت ذلك بوعي وبرامج محسوبة، أم أدى إليه إهمالها، وأخطاؤها الفادحة التي تجر الويلات على الجماهير، فإنَّ النتيجة واحدة هي انسلاخ الذاكرة الشعبيَّة عن جلدها، وشطب سننها، وأعرافها، وتقاليدها، وفنونها التي تحفظ الهوية، وتبلور كيان الأمة الذي ينهض بدوره الحضاري ضمن امتداده الإنساني، فلا أحد ينكر ما لهذه السنن، والأعراف، والتقاليد، والفنون من وظيفة في نسج أواصر التآلف، والترابط والتعايش، وتكوين الشيفرات الواشجة، التي تقود عملية النهوض، بعد كل انتكاسة يتعرض لها الشعب الذي حفرها في لا وعي أجياله.
 
تشوه الذاكرة الجمعيَّة
ويهمني هنا أنْ ألقي بالضوء على أنموذج يتجلى من خلاله تشوه الذاكرة الجمعية العراقيَّة، نتيجة الخراب الذي أحاط بها من تخبط الأنظمة السياسيَّة، المتعاقبة لا سيّما حقبة البعث وما بعدها، ألا وهو العشيرة العراقية، إذ غير خافٍ أنَّ المجتمع العراقي يتبنى قيم العشيرة في أغلب تفاصيل حياته، والعشيرة فيه تشكل البنية 
الاجتماعية الحيوية الفاعلة، ولها مقوماتها المعنوية التي تستقطب ابن الريف، والمدينة على السواء، لا سيّما أنَّ التداخل بين الريفي والمديني وصل حد التماهي في زمن العراق الشائك هذا، لقد كانت العشيرة صمام أمان للفرد العراقي، يحتمي بها من الخوف، والفقر والشتات، ويلجأ إليها في حل النزاعات مع الخصوم، واسترداد الحقوق، وقد أدركت بريطانيا ذلك، فأقرّت للعراق قانونين: قانون الدولة، وقانون العشيرة، ومع تطوّر المجتمع ألغي قانون العشيرة في الدوائر الرسميَّة، لكنه بقي فاعلاً في المنظومة الاجتماعية، فبقيت الأعراف العشائرية التي تسمى 
(السانية) تؤدّي وظيفتها في حل المشكلات، وتبسيطها وإنهائها بالطرق التي تضمن للمتخاصمين: كرامتهم، ورفعتهم، وتحفظ حقوقهم وتردع المعتدي، وتنصف الضعيف تحت قيم (الحظ والبخت)، والشرف والعفة، ومما عزّز ديمومة العشيرة، وبقاء سطوتها، تذبذب قوّة السلطة في العراق، وما ينجم عن ذلك من فراغ أمني تحل العشيرة البديل الجاهز عنه، لكن الذي طرأ على العشيرة في الفترة التي أشرت لها، أن قيمها تراجعت، وتشوّهت صورتها في الذاكرة الشعبية، ولعل أهم العوامل التي أدّت إلى ذلك تعامل السلطات المتوالية تعاملاً نفعياً معها، أضعف البعد المؤسسي فيها- إذ إنَّ العشيرة مؤسسة اجتماعية- مثلما أضعف مؤسسات الدولة بها، إذ سعت جهات متنفّذة إلى دفعها باتجاه العصبية العشائرية، والطائفية، والمناطقية، ورفعتها فوق القانون، ما أفرز بؤراً تغذّي الخلافات، وتتسبّب في انعدام الأمن، وظهور واجهات عشائرية تضخم المشكلات، وتنفخ فيها سعياً للابتزاز 
والارتزاق.
لقد كان شيخ العشيرة يتدخّل في حل النزاعات بين العشائر والأفراد؛ لأنّه يرى أن ذلك واجبه الإنساني، والتاريخي تجاه المجتمع، فيكون أحد (المشاية) أو (الجاهة) لتسوية الخلاف، أو يتكفل بأخذ (العطوة/ العلكَ)، وهي الهدنة بين المتخاصمين في حالات القتل، والحوادث الشديدة، ويضمن الطرف الذي يرسله لذلك بنفسه، وأفراد عشيرته، وفي بعض الأحيان يدفع من ماله الخاص؛ لرأب الصدع وجمع 
الكلمة.
هكذا كانت صورة الشيوخ والوجهاء، وصورة العشيرة التي انبثقوا عنها، وهذا النموذج لم ينعدم في العشيرة العراقية، ولكن برز إلى جنبه نموذج آخر، يدعى الوسطاء يمتلكون مكاتب، ومساعدين ويوزّعون بطاقاتهم التعريفية، قرب المحاكم ويعملون على إحالة القضايا والشكاوى، إلى التقاضي العشائري، بعيداً عن القانون من أجل المتاجرة، وجني الأموال، وهؤلاء الوسطاء، وما شاع عنهم من أفعال الابتزاز والمساومة، شوهوا قيم العشيرة، وخرّبوا ركيزة من أهم الركائز التي مدّت ذهنية الذاكرة الشعبية العراقية 
بقيم: الأمان، والألفة، 
والتكافل.مستغلين حاجة الناس، وظروفهم، يطرحون سعر التوسّط في القضية بحسب مستوى الحل، فكلما كان الحل أسهل كان السعر أعلى، ويتفقون على نسبة من الغرامات، والعقوبات المالية التي تفرض على الطرف المدان فيها، وهي حالة ليست غريبة في ظل منهجيات الفساد المتفشية التي أنتجت كثيراً من الظواهر الشاذّة، والغريبة في أغلب مفاصل الحياة، والشيوخ الوسطاء ينشطون في بغداد؛ 
لأن الوضع العشائري فيها غير منتظم، كما هو في المحافظات الأخرى، التي ما زالت عشائرها محكومة بضوابط، وتقاليد، وأعراف وأخلاقيات العشيرة الأصيلة الصارمة، وذلك لا يعني التعميم المطلق، إذ يمكن أن يتواجد أفراد من الشيوخ الوسطاء في المحافظات، مثلما يوجد شيوخ في بغداد مازالوا يحافظون على قيمهم، واعتباراتهم الأخلاقية، ولا يحيدون عن (السواني).