يوم سرق الزهايمر جدتي

ثقافة 2020/11/02
...

 سرور العلي  
 
 
 
كانت أسرتنا تخشى من ورم خبيث يحاول التسلل لرأس جدتي، وأنا الفتى الوحيد بين أحفاد كثر لها، جدتي التي هرب بها الزهايمر يوما من دون سابق إنذار سوى قولها لعمي الذي يجلس قبالتها وكأنها تراه للمرة الأولى، وبصوت مفزع انهار بعده سقف بيتنا: "من أنت؟".
 ومنذ تلك اللحظة فقدناها وبكينا غيابها طويلاً، كانت تزورنا أحيانا حين تعود لها الذاكرة المؤقتة، تشيع بيننا فرحا شحيحا ثم تعود هاربة من جديد وكأنها تمارس لعبة الاختباء دون تمهل، تختفي ابتسامتها وتتلاشى مع صراخ: "من أنت؟" و"أين نحن؟".
تجلس بذاكرةً جديدة ولا تتعرف علينا، ونحن حولها كأننا ندخل كوكبا غامضا، تدهشنا ملامحه، نحاول إرجاع ذاكرتنا المشتركة: أفراحنا، نعيد أسماءنا مرارا وتكرارا على مسامعها علها تنقذنا من مرض الدهشة، جدي يحبس دموعه والحب يسيل من شفتيه، وتغرق الغرفة بالقبلات التي منحها لها يوم كانا عاشقين يختبئان خلف جدران مدرستهما الثانوية، أختي الصغيرة تقول باكية: "جدتي ماتت"، لأنها لم تعد تتذكرنا ولم نشاهدها تبك على شبح أبي المفقود.
أخذت أياما عديدة أفكر بما قالته أختي، واردد في قرارة نفسي ربما الزهايمر هو شفاء لها أيضا، لقد ارتاحت حنجرتها من الصراخ والبكاء على أبي، كنا نستيقظ على صباحات ملطخة بالحزن، ودموع جدتي وصراخها أول من ينهض في البيت، ولم أعرف لماذا تتذكره عند الصباح وربما تتذكر لحظة ولدته في مثل هذا الوقت، حتى اعتدنا بكاءها، وضحك جارنا يوم أخبرته بأنني أتخيل يوما ما حين استيقظ أجد بيتنا غارقا بدموعها.
 أخفت زوجة عمي كل ثياب أبي وممتلكاته وحتى صورته الوحيدة في القبو، وهو يرتدي كامل ثيابه العسكرية، ويحمل بندقيته وعلى وجهه ابتسامة غير واثق منها، تعتقد أن بهذا الفعل ستبعدها عن ذكراه، لكن جدتي حين علمت بالأمر بكت بمرارة قائلة: "كيف تنتزعينه من ذاكرتي؟!" تنهدت ثم عادت تنتحر بالكلمات من جديد: "لقد قطعوا جزءا من جسدي ولذا أنا أتألم، أكاد اختنق".
 لم أحدث أحدا عن فكرتي التي وجدتها منطقية بالنسبة إلى جدتي التي يأكل عمرها الحزن يوما تلو آخر، بل أصبحت أتمنى أن تستمر في لعبة النسيان إلى الأبد.