محمد صابر عبيد
تتراكم بين الصفة والموصوف في هذا العنوان "العقلُ المهزومُ" شبكة هائلة من الأفكار والقيم والاعتبارات والتصوّرات والمفاهيم وغيرها، إذ كيف يمكن أن نصل إلى قناعة كبرى تجعلنا نصف عقلاً ما بالهزيمة، استناداً إلى معايير معيّنة تسوّغ هذا الوصف وتؤكّده؟ لا بدّ أنّ ثمة أسباباً تتجاوز حدود هذه العقل وتسلّط عليه عوامل الهزيمة كي يُهزَمَ في نهاية الأمر، وماذا يبقى منه إذا ما وصل إلى هذه المرحلة التي تبدو وكأنّها آخر مرحلة يحتفظ العقل فيها بسمتِهِ العقليّة، لأنّه بعد بلوغ مرحلة الهزيمة سيفقد القدرة على الاستمرار بالفعل والإنتاج والإبداع، وينهار نحو آخر طبقة من طبقات الانسحاب من حقل العمل والتأثير والضوء، ويكفّ عن التمتّع بصفته العقليّة الطبيعيّة القادرة على التفكير والتنوير والتغيير والتطوير.
لا يُهزَم العقلُ عادةً إلا بفعل قِوى خارجيّة ضاغطة تتسلّطُ على مقدّراته وتفكّكُ منظومته الفاعلة وتحدّ من تطلّعاتها، وتتنوّع هذه القِوى الخارجيّة بين قِوى طبيعيّة غير قصديّة وأخرى إنسانيّة ذات طبيعة قصديّة تستهدف هذا العقل على نحوٍ أكيدٍ، بفعل محاولة تحييده وإطفاء جذوته وكسر إرادته وتحطيم فروسيّته المنطلقة باتجاه المغامرة والإشراق، ودفعه حتّى آخر منطقة معتمة يمكن أن يؤول إليها منسحباً من المشهد وقابعاً في أسفل الظلّ.
تتعطّل معظم أدوات العقل حين يصل إلى مرحلة الهزيمة ليكون عاجزاً عن أداء مهامّه البسيطة في تشكيل الرؤية والموقف تجاه الأشياء، بل يصبح عبئاً على حامله وقد تحوّل إلى شبح مؤلَّف من جسد محايد لا يؤثّر ولا يتأثر بمحيطه البشريّ، وكأنّه غير موجود أصلاً إذ لا يسعه أن يتحرّك في أبسط حيّز ممكن من كي يعاين ويستجيب ويقترح وينجِز، فتضيع ملامحه المركزيّة المعروفة ليتحوّل إلى صورة مشوّهة تعبّر عن أعلى درجات الخسارة والفقدان التي يتعرّض لها الإنسان، وينتهي إلى كائن سلبيّ يضرّ أكثر ممّا ينفع بلا قيمة ولا حضور ناقص الصفة والأهليّة ولا يصلح لشيء، ليقبع أخيراً في دائرة الظلام ملتفّاً بغيابٍ مُطلَقٍ فاقدٍ للحواس جميعاً.
يتوسّط العقل عادةً بين الذاكرة بوصفها الخزين الستراتيجيّ للذكريات والمعلومات والتجارب والمواقف المرتبطة بزمنه الماضي، والحاضر الراهن في تفاعله مع الحواس والرغبات، والحلم المتعلّق بالمستقبل، بينما ينطوي عليه من آمال وتطلّعات وأمنيات يرعاها هذا العقل ويشحنها بما أمكن من قوّة وإحساس وكفاءة واندفاع، بحيث يعمل بأعلى قدراتها في الجمع بين هذه الطبقات وحشدها في سياق واحد يجعل منه كياناً كليّاً مثمراً في نطاق شامل وحيويّ ومنتِج.
لذا حين يُهزَمُ هذا العقل يفقد هذه القابليّة على الجمع بين المستويات المكوِّنة له، فتشحب صور الذاكرة وتتعطّل الحواس وينحسر أفق المستقبل وتضيع الحدود بين الأشياء، على نحو يبدو فيه العقل وكأنّه بلا إرادة واضحة ذات قيمة ليصيبه العمى والصمم والعجز التامّ، بما يجعل من مفهوم "هزيمة العقل" كارثة ليس على العقل نفسه فحسب بل على كلّ ما يحيط به ويرتبط به ويحيل عليه، كي يكون الهزيمة شكلاً من أشكال الموت الحتميّ.
لكنّ السؤال المصيريّ الأهمّ في هذه الحالة هو: هل يمكن لهذا العقل المهزوم أن يستعيد عافيته يوماً ما وينتفض على هزيمته، ويستعيد قواه المضمَرَة نحو الشروع بالعمل على تحقيق معجزة تحوّل الهزيمة إلى نصر
مُبين؟
لا شكّ في أنّ ذلك ممكن إذا قرّر هذا العقل الثورة على ذاته أولاً، وتحليل خطاب هزيمته بروح من قيم التفاؤل والإيمان والثقة وإعادة اكتشاف طاقاته، على نحو يعيد فيه أنفاسه النظيفة النقيّة داخل فضاء الطبيعة الحرّ بعيداً عن ظلام الهزيمة وظلالها ومتعلّقاتها النفسيّة والروحيّة والجسديّة، والانفتاح على الآخر بأنساقه كلّها والسعي إلى التسامح مع الذات والماحول من أقرب دائرة وأصغرها إلى أبعد دائرة وأوسعها، ومدّ الخطوط كلّها نحو أفق جديد متسلّحٍ بالضوء والبهجة، وتنظيفها من غبار الهزيمة ورمادها ودمائها ودموعها وصورها المهشّمة الممزّقة، واتخاذ قرار الثورة التي تدحر الهزيمة وتُلغي آثارها وبقاياها من دائرة الفعل العقليّ، وتحفيز الحواس جميعاً كي تنظر وتسمع وتشمّ وتلمس وتتذوّق كلّ شيء بوضوح ولذّة لاستعادة جوهر الأمل.
ولنا هنا في هذه المناسبة أن نسأل عن مصير العقل العربيّ الآن، هل هو عقل مهزوم في ضوء ما عرضناه من معنى للهزيمة؟ أم أنّه في مرحلة الانتفاض على الهزيمة ومحاكمة خطابها بروحٍ من العلميّة والعقلانيّة والموضوعيّة؟ ولاسيّما أنّ معدلات النموّ الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ والتربويّ والعلميّ والفكريّ والفلسفيّ والأدبيّ واللغويّ في تراجع واضح ومُخيّبٍ للآمال، لا شيء في هذا الوطن العربيّ الكبير من المحيط إلى الخليج يؤكّد بقرائن علميّة دامغة أنّ العقل العربيّ في الطريق الصحيحة، بل هو في تراجعٍ مُريعٍ قد يقود إلى هزيمةٍ مُنكَرَةٍ تضعه في آخر قافلة العقول البشريّة الراهنة، فهو على صعيد العقول الحضاريّة المنتِجة للحداثة وما بعدها هامشيّ لا يسهم بأبسط قَدْرٍ من الفعاليّة داخل هذه المسيرة الحضاريّة الفادحة، يلعب دور المستهلك السلبيّ لمنتجاتِ هذه الحضارة النوعيّة ويسيء استخدامها والإفادة منها أكثر الأحيان، على النحو الذي يدفعنا بأسىً وحزنٍ ويأسٍ واندحارٍ وفقدانٍ نحو وصف العقل العربيّ راهناً بأنّه "العقل المهزوم".