الجسد العاطل

ثقافة 2020/11/03
...

ابتهال بليبل
 
ترتدي فستانها الأحمر الطويل.. امرأة تجري على خشبة المسرح بين الراقصين والراقصات، بينما جسدها يتحرك بانسيابية مع إيقاع الموسيقى.. وكأن فستانها يعمل بشكل رمزي مع (الكوريغرافيا) وعلى مستوى معين من الذاتية، إذ يمكنني التكيف مع تغيرات الموقف السيميائي تبدأ التفاعلات الجسدية بينهم على المسرح بسحب مشاهد كثيرة من رأسي. مشاهد وأحداث ووجوه تحولها حركاتهم الطبيعية وربّما المتوقعة، لانعكاسات لا تخلو من الافتتان بالحرية المتاحة للرجال فقط. يمكن أن أرجعها الآن بعد كثير من التركيز على غموض وجودنا، ومن الهرب من شيء نحو شيء ما، فهذا الجسد العالق في عمق الصراع بين الجنسين، ومحاولات الذكورية لمركزة سيطرتها، يصبح عند كاهنة الرقص الألمانيّة بينا باوش موضعا لتصوير (الأنثى) على أنها المنتج لعلاقات السلطة.
ليس عندنا باوش ونذهب إلى مسرحها - لشرعنت - فاعلية اجسادنا فيمنحنا الجمهور ليس الخطابات العصرية التي ستهشم التقاطعية بين الإناث والذكور في إطار علني للأبد فقط، بل واحتمال ممكن أن نذهب إلى حيث لا يفترض أن نذهب.. نذهب لأماكن أخرى لم أرها من قبل، بالصدفة أنا قد أراها الآن. 
الجسد الأنثوي لا يتمكن من تجاوز الاختلافات الثقافية، لكنه ربّما يتجاهلها، هكذا لأن جسدي هو جزء من ذاتي، وبحركاتي حتى اللا إرادية يتحكم هو في كل سنتيمتر من حدودي التي تميزت بالأحاسيس المزدوجة- وهي- عادة ما تنتمي لكل امرأة في العالم، العالم الذي بحاجة ليفهم أن جسدي يدرك جيدا حيث أتحدث، ويثير انتباهي لالتفت إلى الوراء.
باوش التي رحلت عن عالمنا عام 2009 كانت تقارن نفسها دوماً بطائر مهاجر بلا هوية، وغالباً ما تستعين بإرثها المؤلم (الرقص) حتىّ تُعبر عن العنف والجندرية والاتّجار بالجنس والاستبداد والعبودية.. باوش الكاهنة التي احتفت عمداً بالجمال والحياة لم تتمثل استعاراتها الرئيسة في خصلات شعرها، كما الراقصات يتفاخرن بخصلات شعرهن الطويلة، والتي تستخدم أحياناً لتغطية ملامحهن للإغراء الانثوي، كان جسدها الذي يصنف لرسم الحدود الوظيفية - كما هو متعارف- أداة لا تعمل لنقل الأفكار، لأنها ببساطة تسكن في جسدها.. جسد الأنثى. 
ينبغي لجسدي في الحقيقة أن يثبت أن ذاتي فاعلة بقدر الدور الذي يلعبه في وجودي. قد يعيد ترميم ذاتي بعد ما تبناه من أيديولوجيات تاريخية وثقافية روتينية، وهذا لا يمكنه أن يحدث بسهولة إلّا عندما لا تتناقض صفاته الديناميكية مع ذاتي.
قد يبدو الرقص من الأمور الشائعة في كونه يتغلب على الانقسام الحاصل بين العقل والجسد أو يتجاوز (الثنائية الديكارتية).. لأن العديد من الأشكال والمفاهيم التقليدية للرقص تعد الجسم الراقص أداة معبرة عن أفكار معينة، وهذا الرأي ينسجم - حقيقة- مع الديكارتي أو الفلسفة الحديثة ديكارت. بينما الحقيقة النسوية تؤكد استحالة الوصول إلى الأفكار بوضوح من المعبر عنها (الجسد) رغم بُعده
 المادي.
من هنا.. نكتشف أن باوش من الراقصات التي لا تهتم بشيء ما نفهمه، هي دوماً تشير من خلال حركات جسدها إلى شكل من أشكال المعرفة الجسدية. الأمر الذي يتركنا نشكك في أن الفكر لا يرتقي إلى مستوى وجودنا المتجسد. 
أتخيّل الآن أن الجسم هو الأساس لإدراك العالم، ولكن وجوده أيضاً، يكون مختلفا إذا كان يعتمد على الاستجابات، حيث التكيف مع الموقف ومتغيراته.. لأن جسدي- ببساطة- يدعم ذاتي ويساندها، ولأنه كذلك يهتم في التبادل أو كما يسمى (الانعكاس) الذي يحصل بيني والعالم.