غائب لم يحضر بحلته المعهودة، وكأن الغياب أجهده فاختفت الدهشة منه. لسان حال المسرح الوطني في أول عروضه التي كسرت حظر جائحة كورونا، عبر مسرحية «فلك أسود» يوم 29 من تشرين الاول
2020.
يبدو ان نصوص د.علي عبد النبي تحتاج الى خبرة اكبر لمعالجتها، فهي تتنفس اليومي وتسبر اغواره وتقف عند مفترقات ازماته بحثا فيه وتعميقا لجراحه، وصولا الى وضع المتناقضات وجها لوجه امام الانسان ووعيه وفكره، وهذا النوع من النصوص يحتاج الى مهارة لا تقل عنها لمعالجتها، قد تبدو الفكرة بسيطة ولكن مضمونها عميق، يتطلب ان تقدم بحرفية عالية بعيدا عن الاداء المباشر، فالحوار / النص روح تحتاج من الممثل والمخرج ان يتنفساها لنراها عبرهما فكراً واداءً، اما الالقاء المرسل من دون الوقوف عند منعطفات الحوار الحرجة بعناية، وعدم اعطائها حقها من الصمت احيانا، فالصمت حوار هو الآخر علينا ان نجيد استخدامه، هو ابلغ من الكلام في الكثير من المواقف. وفي مثل هذه النصوص الجدلية التي يتداخل فيها المقدس والمدنس، الارضي والسماوي.. لا بد لها من فهم اعمق ورؤية بعين المضمون والظاهر معاً.
في العرض المسرحي الذي قدمته الفرقة الوطنية في دائرة السينما والمسرح، سينوغرافيا واخراج د.رياض شهيد وتأليف علي عبد النبي وتمثيل كل من حسن هادي وضياء الدين سامي وصفا نجم، غابت الدهشة عن العمل، بالرغم من ان النص فيه الكثير من الانعطافات الدرامية التي لو استغلت جيدا لكان لنا حديث آخر، ولكن الاخراج على ما يبدو اراد ان يكون الحوار منسابا، غلب عليه الصوت العالي في اوقات كثيرة، فضاعت في بعض الاحيان مخارج الحروف ونهاية الكلمات كما تسرب اليه الملل في اول ربع ساعة. حتى بعد الانعطافة الاولى والمهمة في العمل وتحول بتول/ صفا نجم الى رجل لم يعطها العمل حقها، وكأن الاخراج اكتفى بتوسلات بتول لله عز وجل وخوفها من الاغتصاب وتحولها الى رجل فغابت الدهشة، ووقفة مهمة واعني هنا رد فعل صفا الانثى بجسد حسن الرجل، هذا المشهد لم يأخذ حقه جيدا. كذلك الحال مع مشهد الرقص التعبيري الذي لم يخدم العمل وقدم لكسر رتابة الحوار على ما يبدو بين حسن / الزوجة، وضياء الدين/ الزوج المصدوم المستسلم لقدره.
على مستوى التمثيل كان الفنان حسن اكثر حيوية وتفاعلا مع الحوار والشخصية التي اقترب من جوهرها رغم تقلباتها المتكررة، فهو امرأة بجسد رجل واحاسيس زوجة تحب زوجها وتخلص له.
بينما سحبت شخصية الرجل المصدوم الفنان ضياء الى الصوت العالي والاداء التقليدي، اذا لم يكن هناك من استغلال لفضاء المسرح وحركة الممثلين كانت عبارة عن خطوط متوازية بين السرير والمرآة واحيانا تتقاطع معها خطوات باتجاه مقدمة المسرح لغلق الباب ولتحريك الستارة الشفافة لتستر ما خلفها، ولكن حتى هاتين المفردتين الباب والستارة لم يوظفا بشكل صحيح، فالباب بكل ما يحمل من إرث وسيمولوجيا، هو الفاصل بين الخارج المخيف كما قدمه العمل والداخل، الصوت العالي والهدوء، الشارع وهنأة البيت، الشمس والظل، القسوة والوداعة، الحدود الخارجية والداخلية.. يكفي أنه المنفذ الذي بدأ منه العمل وصراخ الزوجة وخوفها من الاغتصاب باسم الدين الذي مارسه الارهاب، ونوم الزوج / الحامي وعدم استيقاظه وكأنه في سبات.
الاحداث بدأت من فتح الباب، هو الفعل المحرك، الباب هنا هو باب الوطن مثلما الستارة والشباك والصلاة والتحول، جوهر هذه المفردات اعمق من ظاهرها، البيت كان مكشوفا للخارج، اهله نيام لم يحسوا بالخطر، هي صورة اقرب ما تكون للعراق عندما استبيح من قبل عصابات داعش الارهابية، وهذا ما قصده النص على اقل تقدير فكان لا بد من تثوير هذه المفردات، مثلما اشار العمل الى خروج فعل الاغتصاب عن اطاره البشري/ الفردي الى الجماعي/ الوطن، فاغتصب الوطن عبر سلب حقوقه وكرامته ليخرج الشعب بتظاهرات كبيرة في اشارة لثورة تشرين 2019 مطالبا بحقه، ولكنه جسد في مشهد صغير مر هو الاخر مرور الكرام. كما سلط النص الضوء على قضية مهمة، وهي عادة المؤلف في عدد غير قليل من نصوصه، الا وهي تفكيك المقدس بغير المقدس، بمعنى انه يعالج ممارسة بشرية وفهم بشري منحاز لفكرة او ايديولوجية ما لأمر او قضية مقدسة كأن تكون نصا دينيا، فالاغتصاب محرم بكل صوره بنص ديني ولكن الذين يغتصوبون الاخرين يبررون فعلهم بنص ديني حسب زعمهم كما تفعل داعش الارهابية، وهذا الجدل الساخن على الاقل في العراق وللعديد من القضايا يتم باسم الدين كما اشار العمل في اكثر من مكان، ويمكن سحب هذا الفهم على الفساد والمحسوبية والمحاصصة.
كثيرة هي المحطات التي لم تشبع فنيا قدمها العمل المستعجل اخراجيا ولا اعرف لماذا؟، علما ان هناك بعض المشاهد الجميلة مثل مشهد السرير والحوار الخافت بين الزوجة المتحولة الى رجل والزوج، والمشهد الاخير الذي تفاعل معهما الجمهور.
عموما، تحية لملاك العمل وجهده في زمن الشح الفني الذي نعيشه بسبب جائحة كورونا.