د. إسراء العكراوي
لا تتكوّن اللغة من مفردات متناثرة خالية من الترتيب والنظام، وإنما يُدرك الكلام ويُفهم من عباراته وجُمله المفيدة، فالألفاظ - كما يرى الجرجاني "لا تُفيد حتى تؤلفَ ضرباً خاصاً من التأليف، ويُعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب"(1)، ولصياغة التراكيب أهمية لا تقل عن أهمية اختيار المفردات، بل ربما تزيد عليها، لأن نظمها هو ما يؤدي إلى المعاني، وبترتيبها تُرسم الصور الشعرية، وهي تجيء مرتبة حسب ترتيب المعاني في النفس، وبصياغتها يؤدي المؤلف قصده، لذلك عبر الجاحظ عن الشعر بأنه "صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير) (2)، فلغة الشعر لغة منسوجة على تجاوز السائد والرتيب في لغة التخاطب الاعتيادية، وإن ربط المفردات هو الذي يُظهر الأسلوب الذي يستمد الحياة والقوة من طريقة استعمال المفردات المناسبة، ومن السر في ربط الكلمة الحية القوية بأختها بحيث يتهيأ من هذا المركب طريقة في التفكير. ويُعرَف أسلوب الشاعر باجتماع دراسة المفردات والتراكيب التي استعملها، والتي عبر بها عن بواطن نفسه، وأوصل بها فكرته، فتكون من ذلك معجمه الخاص الذي قد يشترك في الكثير منه مع شاعر آخر، ولكنه يحوز تميزه من خلال أمرين: أولهما: نوعية هذه الألفاظ التي يختارها الشاعر، والمضمار الذي تدور فيه. وثانيهما: هو طريقة الشاعر في التعامل مع هذه الألفاظ وكيفية تركيبه لها. فالسياق يمكن أن يُعيننا على فهم أي مفردة غامضة وردت فيه، لأن الكلمة تشكل جزئية ووحدة صغرى داخل منظومة متشابكة من العلاقات، وفي أحيان كثيرة يتغير معنى المفردة بتغير السياق، وتَحسُن أو تَقبُح بالنظر إلى التركيب الذي وردت فيه. فهذا الصاحب بن عباد (ت385هـ) يعفي نفسه من عناء النظر في مدى قدرة المتنبي (ت354هـ) على توظيف ثقافته اللغوية، ويكتفي بإصدار أحكام القيمة على البيت الآتي:
أُسَائِلُهَا عَنِ المُتَدَيِّرِيهَا
فَلاَ تَدْرِي وَلاَ تُذْرِي دُمُوعَا
يقول: "لفظة (المتديريها) لو وقعت في بحرٍ صافٍ لكدَّرته، ولو أُلقِي ثقلها على جبلٍ سامٍ لهدَّه، وليس للمقت فيها نهاية، ولا للبرد معها غاية"(3). وواضح من تعليق الصاحب بن عبَّاد التزيُّد الشديد على المتنبي، ولو أنصف الصاحب لأدرك أن أبا الطيب لا يُعَابُ على غزارة معارفه، ولا على إتيانه بألفاظ لا إلفَ للناس بها، بل يُعَابُ إذا كانت معارفه ضَحْلَة، أو إذا لم يُحْسِن توظيفها، فهو يُسائِل الديار عن أهلها: أين ذهبوا؟ فلا تدري ولا تجيبه ولا تساعده على البكاء، فهذه حاله، ولا بُدَّ أن نراعي أنه ذو عاطفة جيَّاشة، وفي حيرةٍ من أمر سكَّان الديار. وإن مَن يتأمَّل كلمة (المتديريها) يجدها أخف على اللسان من كلمة مثل (مستشزرات)، كما أن السياق الموقِفي، والسياق السببي، والإحساس النفسي أطاحوا بغرابتها؛ فوجودها بعد الجملة الفعلية (أسائلها)، وبعد حرف الجر (عن)، وقبل الجملتين المنفيتين: (فلا تدري)، (ولا تذري)، يذيب غرابتها، ويعفي المتلقِّي من اللجوء إلى معاجم اللغة، خاصة إذا كان المتلقِّي ممِّن مَرِنوا على قراءة الشعر العربي، وعرفوا تقاليد الشعراء في سؤال الديار واستعجامها عن الجواب.
وإذا كان هناك من يرى أن كلمات مثل (ساكنيها) أو (قاطنيها) تَسُدَّ مَسَدَّ (المتديريها)، فإننا نظن أن مثل هذه الكلمات تجعل المتنبي لا يختلف عن غيره من الشعراء، ولا تتَّفق مع كبريائه الشعري، وحرصه على إثبات جدارته الفنية بصحبة الأمراء والملوك، وتفوُّقه على مَن يغشى مجالسهم من أعيان الشعراء والكُتَّاب، والفلاسفة، واللغويين، والنقَّاد، والمتصوِّفة. فالتركيب هو من شفع للفظة في هذا الموطن، وأزال عنها ما قد يُحس منها بالثقل.
----
المصادر:
(1) أسرار البلاغة: عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ)، ص4
(2) الحيوان: الجاحظ:1/9
(3) يتيمة الدهر: الثعالبي :1/159.