القربان

ثقافة 2020/11/03
...

  سمير غالي
قصيرة حكاية القربان. حفظناها كلنا. الأقارب، والجيران، وكل من بات عندنا. حتى أولئك الأغراب الذين لم ينقطعوا ساعةً عن المرور ببيتنا لشرب طاسة ماءٍ من الحِب الراشح تحت فيء فحل النخل النابت أمام باب الدار، سمعوها عن أمي، وأعادوها على مسامع أناسٍ آخرين، لكن أحداً منهم لم يجرؤ على العمل بما جاء فيها، ربما، لأن قلوب الأخوات الحبيبات تبدلت، أو لأن رخص الناس، أنهى الحقبة التي كانت السماء تقبل فيها قرابين بشرية.
هكذا ترويها أمي:
كنت أنجبتك عند أخوالك منذ شهر. لم يسعك طبق الخوص، ولا أحاطتك الأقمطة كنت سميناً وأبيض مثل الحليب، وكنت أغطيك بعباءتي حتى يخفت النور المبهر في وجهك كي أتمكن من إغماض عينيّ لأنام. ثم تتمتم كمن تُحدث نفسها:
ــ مذ تَرَكتَ الصلاة، وصرت تقرأ الكتب، ووجهك يسود كل يوم. وتُكمل: 
أصابت خالك الحمى. كان عمره ست سنين، ولم يكن في الدنيا أعز على روحي منه. عبروا به الهور نحو أطباء المدن. ربطوه إلى أضرحة الأولياء البعيدة. نحروا على قدميه بقرة بكراً، إلا أن سخونته كانت تزيد، وكنا إذا ما سكبنا عليه ماء العروس البارد، صدر عنه صوت مقلاةٍ مستعرةٍ. قطع الطعام والشراب. أغمض عينيه، وأسبل يديه، وأدرنا وجهه نحو القبلة.
كنت عند رأسه تلك الليلة، أراقب على ضوء وجهك الساطع نبض وريده الضعيف في نقرة ترقوته، فلما أيقنت أنه سيموت، حملتك وتوجهت بك إلى الله وسألته:
ــ يارب.. هذا ولدي البكر، خذه بدلاً عن أخي.
ووضعتك بيني وبينه على السوباط ونمت، فرأيت في المنام سفينةً تفج أجمات القصب، وتمخر عباب الماء، فلما دنت من صرائفنا، نزل منها ثلاثة شباب، حدقوا فيك، وحملوك بصمتٍ من حضني وغادروا. أفزعني منظرهم وهم يخفون وجهك المشرق الجميل تحت عباءاتهم البيض، فلحقتهم وأنا أصيح:
ــ ابني
التفت آخرهم نحوي وقال:
للتو فديتِ أخاكِ به.. أتضحكين علينا؟ 
فتراجعت آسفةً وأنا أصرخ: خذوه خذوه خذوه. 
حين أفقت في الصباح، كان خالك يؤرجح قدميه خارج السوباط، ووجنتاه موردتان، وابتسم قبل أن يطلب مني خبزاً وحليبا.
على الرغم من العرق الذي أشربه كل ليلة والكتب التي أبعدتني عن الصلاة، لكنني كلما حلمت، رأيت نفسي مع خروف إسماعيل الذبيح، نلعب بعيداً عن الناس في الجنة.
..................................................................
 
حِب: بكسر الحاء، إناء فخاري مازال يستخدم في أرياف العراق لتبريد الماء. 
السوباط: سرير ثابت على الأرض ومرتفع عنها. يصنع من الطين المجبول على هيكلٍ من جريد النخل. 
ماء العروس: مياه نقية صافية تجلب من أعماق الهور.
الصرائف: مفردها صريفة، وهي كوخ من القصب.