نصير فليح
التأثير المهم لفكر ميشيل فوكو يتجلّى في زمننا الحالي بصيغ عدة في حقول متنوعة. أما في مجال النظرية الادبية والنقد الادبي فلدى ستيفن غرينبلاتStephen Greenblatt (1943) ومنهجه الادبي المعروف "بالتاريخانيّة الجديدة" New Historicism فإنّه ينبع أساسا من استكشاف علاقة النص بالمؤثرات الاجتماعية والسياسية الأبرز في عصره، وعلاقته بالسلطة والقوة. ذلك ان التاريخ أصلا، حسب فوكو، ليس مجرد استمرارية متسلسلة متدرّجة من الاحداث او التراكم المعرفي، بل فيه انقطاعات كبرى، وان الحفر والتنقيب الاركيولوجي في المعرفة يكشف عن هذا، كما ان الوثائق - حتى لو كانت مجرد "شظايا معرفية" عابرة - قد تكون مفتاحا لإنارة الكثير من اللامفكر فيه.
التاريخانيَّة الجديدة
فمن الجوانب الرئيسة للتاريخانيّة الجديدة هي العودة الى الأدب والتاريخ بمقاربة جديدة، وكشف علاقات النص الأدبي والوثيقة بما يمكن ان تتيحه عن مجتمعها الذي ولدت فيه، وبالجانب الادبي وتشابكه مع حياة الأديب، لاسيما في موضوع التأثر بالقوى المهيمنة في زمن معين او مجموعة المؤثرات الأبرز التي ترسم الحدود والخطوط الحمراء وغير الحمراء. ومع انها، اي التاريخانيّة الجديدة، برزت بالتزامن مع الدراسات الثقافية وما قد يعرفه القرّاء عن "النقد الثقافي" (وبالمناسبة هناك سوء فهم شائع في ما يخص المصطلح الأخير في ثقافتنا قد نتوقف عنده بتفصيل مستقبلا في بحث او كتاب) فإنّ لها سماتها التي تميزها ايضا عن الدراسات الثقافية وعن نظرية ثقافية اخرى ظهرت بالتزامن معها وهي "المادية الثقافية" Cultural Materialism، رغم المشتركات الكثيرة. وليس غرينبلات هو الممثل الوحيد للتاريخانية الجديدة رغم انه ابرز رموزها، كما ان فوكو لايمثل التأثير المهم الوحيد فيها، بل انها تستلهم كثيرا من الانثروبولوجيا الثقافية لدى كلفورد غيرتس Clifford Geertz، التي تشدد على اهمية النزول الى "المستوى المجهري" لثقافة ما، اذا اردنا ان نفهمها بشكل ملائم.
آركيولوجيا النص الأدبي
غرينبلات يطبق منهجه بتركيز خاص على عصر النهضة وأسمائه الادبية الابرز مثل وليم شكسبير، وتوماس مور، وكرستوفر مارلو، وهو ما يزال مستمرا في هذا التركيز، كما يمكن ان نلاحظ من كتبه الاخيرة من قبيل Tyrant: Shakespeare on Politics ( = الطاغية: شكسبير بخصوص السياسة) (الطبعة الاولى منشورات نورتون 2018). اذ تتضمن مقاربته دراية وافية بالظروف التاريخية ومعلومات غزيرة عن ذلك العصر، بما في ذلك "شظايا" او نصوص وثائقية، قد تبدو للوهلة الاولى عابرة ولا اهمية كبيرة لها، لكنّه يستنطقها ويربطها بنصوص الكاتب وحياته وعصره، معالجا التأثيرات الابرز عليه وعلى نتاجه، مما يقدم لنا من ثمَّ رؤية جديدة ليس فقط عن تشكيل ملامح النص الادبي للكاتب واسلوبه او مكونات نصّه، وانما عن الظروف التي ساعدته على انتشار اعماله وذيوع صيتها، او التي منعته واعاقته من ذلك، وصولا الى بعض الحالات التي وصلت فيها الامور الى اعدام الكاتب نفسه، كما هو الحال مع توماس مور، او الموت المبكر الغامض لكرستوفر مارلو.
فهو، مثلا، يتناول حادثة او حالة بسيطة مرَّ بها توماس مور في شبابه، عندما حضر دعوة الى حفل غداء من قبل الكاردينال وولسي، وما ترتب على ذلك لاحقا من تجاذبات طويلة في مسيرة مور مع عالم السياسة الخطر في عصر النهضة، والتي يستمر غرينبلات في تقصيها وربطها بحياة وكتابات مور، وصولا الى موت مور نفسه عندما اصطدم اخيرا مع قوة كبيرة لا طاقة له بها، وهي قوة الملك نفسه، وتجليات كل هذا في كتاب مور الشهير "اليوتوبيا" Utopia(1516).
كما يتناول اثر الصراعات الدينية والسياسية في عهد شكسبير في العالم الاليزابيثي، وصراع الافكار الدينية حول موضوع "المَطهَر" (مصطلح في الديانة المسيحية يعني المكان او حالة المعاناة التي تكون فيها ارواح الخطاة قبل الذهاب الى ملكوت السماوات)، كما في تناوله لشخصية هاملت، وسياق الاحداث ومبنى المسرحية، ودلالات ظهور شبح أبيه في المسرحية، وغير ذلك من عناصر العمل وحياة شكسبير، ليبيّن لنا اثر القوى والافكار والصراعات المهيمنة في ذلك العصر على نتاج شكسبير وحياته ايضا، وهو ما يعبر عنه جيدا عنوان كتاب غريبنبلات "هاملت في المَطهَر" Hamlet in Purgatory.
بعيدا عن التفكيك
وكما كان فوكو نافرا من التفكيكية على المستوى الفكري (والشخصي ايضا في علاقته مع دريدا، التي وصلت الى التراشق بالاتهامات من قبيل قول دريدا عن فوكو بأنّه يحاول ان يفعل المستحيل بكتابة تاريخ للجنون بلغة العقل، وقول فوكو عن دريدا بانه "يسبح في بحر من العلامات"، وما الى ذلك - مما قد يعرفه القارئ الكريم - فان غرينبلات، بحكم رؤيته هذه ومنهجه هذا، من المناهضين لاستخدام تقنيات التفكيك ومنهجه في مقاربة النصوص الادبية، بوصفها مقاربة تفتقر الى الحسّ التاريخي. وكما يقول فان انهمامه يتركز على "الإتيان بالحضور الاجتماعي الى عالم النص الادبي والحضور الاجتماعي للعالم الى النص الادبي". ولكنّه لا يرى ان الكاتب وعبقريته هي المصدر الوحيد لمنجزه كما قد يتبادر الى الذهن، وانما احد العناصر الفاعلة (وواضح هنا الاختلاف مع اطروحات من قبيل "موت المؤلف" كما في البنيوية وبعض اتجاهات ما بعد البنيوية ايضا). كما انه لا يضع جملة النتائج التي يتوصل اليها في سياق سردية واحدة، ذلك انه اصلا يرى ثمة تعدد للسرديات المتباينة او حتى المتناقضة يمكن ان يسفر عنها البحث. فهناك دائما تعددية واختلاف، وهذه بالطبع فكرة ما بعد حداثية
بامتياز.
اذا ما تمعّنا في ما تقدم، وفي ما يخصّ ثقافتنا العراقية والعربية، يمكن ان نرى ان توظيف منهج التاريخانية الجديدة قد يكون مثمرا جدا في مراجعة نقدية شاملة لعلاقات الادبي بالتاريخي والسياسي، وعلاقات الافكار والنصوص بخطاب القوة والسلطة في زمنها، لا سيما ان ثقافتنا من الثقافات الشديدة الاهتمام والتأثر بالماضي. ولكن ربما ما يتعارض مع استخدام منهج كهذا في ثقافتنا هو ان التاريخ نفسه ومراجعته امر محفوف بالمخاطر والعقبات الشديدة، بينما يحتاج هذا المنهج الى اكبر قدر من الحرية في الكشف والتحري بعيدا عن زيف الخطاب "الرسمي" عن التاريخ - كما يسميه نصر حامد ابو زيد - بكل ما يتضمنه من
مغالطات وتصورات شديدة الاستقطاب والانحياز.