داود سلمان الشويلي
لقد صور الإنسان الشعبي الفقر والبؤس اللذين كان يعيشهما في فنونه وآدابه الشعبيَّة ووجد فيهما تلك العلاقات التي تربطه مع إخوة له، وذلك العالم الذي أراد أن يعيشه والآخرون، لا أن يعيش فيه فقط، العالم الذي افتقده، هو العالم الذي أوجده والذي أراد منه أن يكون متنفساً له من كل الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية كذلك.
هذا العالم الذي رسمه وصوره، هو عالم الحكاية، إنه عالم بعيدٌ عنا، ومغبر بمتاهات وشعاب ما دام يفتقد الى من يأخذ بيدنا ليكشف لنا عنه وليرينا جوانبه وخصائصه وآفاقه، وأبعاده، ومقوماته، وماهيته أيضاً وكان الإنسان، نفسه، هو دليلنا في ذلك في متاهات هذا العالم الذي اخترعه هو نفسه، يلج بنا عوالم مختلفة، يأخذنا في دروبٍ وشعابٍ لم تطأها قدمٌ من قبل، يدخل بنا منازل السلاطين بأبهتها وجمالها وفخامتها، مرة، وقصور السحرة والحيوانات المتوحشة مرة أخرى، يغزو بنا قلب فتاة وغابة كبيرة مكهربة الأجواء بكل ما هو سحري وخارق، يدخلنا عالم الحيوان، الحقيقة، الخيال،
الأسطورة.
لنتساءل: من منا هو هذا الإنسان، هل هو أنا أو أنت، إذن من
هو؟
إنَّ هذه الشخصية الأنموذجيَّة التي استطاعت أنْ تفتح لها وللآخرين كوة في ظلمة هذا العالم لتضيء لنا الطريق، هذه الشخصية التي اختيرت بدقة وصفاء ما هي إلاّ – وبكل جانب من جوانبها المتعددة – شخصية إنسانية تؤثر في البيئة وتتأثر بها.
وإنَّ هذا التأثير في البيئة من جانبها يكون بالقدر الذي تؤثر البيئة فيها والتي تعيشها بنفسها.
وبهذا فإنَّ الملامح التي تكسبها البيئة إياها – سلباً أو إيجاباً – ما هي إلا صورة شكلية يحاول البطل – أو هذه الشخصية – الانفلات منها حيناً، والسيطرة عليها حيناً آخر، إذ إنَّ هذه الشخصية، الأنموذجيَّة، وخاصة الشعبية منها، تواجه في حياتها عقبتين
هما:
- العلاقات الاجتماعية السائدة التي نعيشها أولاً.
- وثانياً، الايديولوجية السائدة في عقول الناس الذين يقاسمونها العيش في البيئة تلك.
هاتان العقبتان تكونان بمثابة القيد الذي تحاول الشخصية هذه التمرد عليه، ومن ثم الخلاص منه ليس فرداً فحسب وإنما مجتمعاً كبيراً، إذ إنه – أي البطل، الشخصية هذه – هو مقياسٌ دقيقٌ لشعور الإنسان بالأزمة كما يقول الدكتور شكري محمد عياد. (1)
ومن الجدير بالذكر، إنَّ الشخصية هذه ما هي إلا أنموذج بشري، وليست شخصيَّة معينة لها اسمٌ محددٌ، وملامح تفصيليَّة.
إنَّ مثل هذه النماذج لا نستطيع إطلاق التسميات عليها، وهذا ما نراه في جميع الحكايات إلا ما ندر منها، خاصة النوع الشعبي، إذ إنَّ تحديد التسمية بـ "الولد والأب والسلطان والملك والبنت والمرأة العجوز وحديدان ورويشان "هو ما يعطيها صفة الأنموذجيَّة.
وما يؤكد أنها النموذج البشري الذي خلقه الإنسان الشعبي ليكون المثال في تصوير الفعل ورد الفعل في الحياة التي يعيشها.
ثم أنَّ نمطية هذه النماذج البشرية، ما هي إلا رد فعل لا إرادي لعدم رسم الشخصية رسماً يحملها خصوصية
ما.
ففي حكاية "ليلة الزينين" نجد عدة شخصيات، منها ما هو رئيس، ومنها ما هو ثانوي.
وقد أطلق القاص الشعبي عليها تسميات مجردة، وعامة، هذه التسميات إما أنْ تكون صفة عامة "دواس الليل" أو أنْ تكون مأخوذة من مهنة الشخصية نفسها "خليفة وقاض وفلاح ووزير" أو أنها تأتي من خلال الحالة الاجتماعية للشخصية نفسها "زوجة الخليفة، زوجة الفلاح "أو أنها اسم علم شائع الاستعمال مثل "سعيد، مسعود" وهو اسم يطلق عادة على العبيد "الخدم".
في هذه الحكاية الشعبية نجد: (2)
1 – الخليفة – اسم مجرد، عام/ وظيفي.
2 – زوجة الخليفة – اسم مجرد، عام/ اجتماعي.
3 - دوّاس الليل – اسم مجرد، عام/ مهني (يعني اللص).
4 – الوزير – اسم مجرد، عام/ وظيفي.
5– القاضي – كذلك.
6 - سعيد – الخادم، اسم شائع.
7 – الفلاح – اسم مجرد، عام/ مهني.
8 – زوجة الفلاح – اسم مجرد، عام/ اجتماعي.
أما في حكاية "حديدان" فنجد الأسماء فيها قد استلت من اسم المادة التي تتعامل بها الشخصية نفسها، فهي:
1 – حديدان – لأنه سكن في بيت مبني من حديد.
2 – رخيصان – لأنه سكن في بيت مصنوع من
الرخيص.
3 – رويشان – لأنه سكن في بيت مبني من الريش. (3)
ولما كانت شخصية البطل، بصورة عامة، هي مخلوق الكاتب، ويعود إليه بالتبعيَّة التكوينيَّة، فإنَّ بطل قصصنا الشعبي هو مخلوق الحس الجماعي الشعبي لمجموعة ما من البشر لها الأحاسيس والتطلعات الاجتماعية والاقتصادية نفسها، وكذلك المعتقدات الروحية، على الرغم من تباين هذه الأخيرة بصورة عامة ومن وجهة نظر شبه مباشرة لكنها في الأساس واحدة.
هذه الشخصية هي تكوين مصنوع داخل الوجدان الجماعي، وليس كما ينمو الطحلب على سطح الماء الآسن، بل هي هذا الحس الجماعي بما يحمله تاريخ موروث من ماض وحاضر ونظرة للمستقبل، وواقع معاش بكل معاناته، وأفراحه، وأتراحه، وآماله، وأمانيه.
هذه الشخصية تمتلئ بقدر ما يمتلئ به الحس الجماعي الشعبي بالحياة، وبكل جوانبها، إذ إنَّ الصلة بين الحياة تلك وذلك الحس الجماعي للبطل تتحدد بالمسافة التي تفصل بينه وبين الواقع المعاش وتاريخه، بل تاريخ الحس الجماعي بصورة عامة.
إنَّ هذه الشخصية تتخذ لها معادلاً رياضياً بالصيغة العكسية، من حيث النسبة والتناسب.
فكلما كانت المسافة قصيرة – حتى تصل في بعض الأحيان الى الصفر – بين الحس الجماعي – البطل، وبين الواقع المعاش والتاريخ، كلما كان هذا البطل – الحس الجماعي، ممتلئاً بالحياة وغائصاً فيها ومؤثراً ومتأثراً، والعكس صحيح.
وأيضاً، فإنَّ قدرة هذا البطل – الحس الجماعي، على التعبير عن الخاص دون العام، إنْ كان ذلك تاريخاً أو واقعاً معاشاً، ولست قاصداً بهذين التعبيرين "الخاص والعام" ما يعنيانه من الناحية الاجتماعية، أو الاقتصادية، بل من حيث الملامح الظاهرة واللا ظاهرة لشخصية البطل.
الهوامش:
(*) هذا القسم الأول من هذه الدراسة.
1 – البطل في الأدب والأساطير – د. شكري محمد عياد – القاهرة - 1959.
2 – نشرت في مجلة التراث الشعبي: ع / 4 / س5 / 1974.
3 – راجع: "القصص الشعبي العراقي – دراسة تحليلية في ضوء المنهج المورفولوجي" في كتابنا: القصص الشعبي العربي – دراسات وتحليل- دار الشؤون الثقافية العامة – 2020.