سعى الفيلسوف اليوناني (أرسطو) في كتابه فن الشعر إلى وضع ترسيمة شكلية قسم في إثرها الأجناس الأدبية إلى الغنائية والملحمية والدرامية ثم شهدت هذه الترسيمة تحولات بنيوية أفضت إلى أنواع أدبية عدة، فقد تشظت الملحمية إلى سرديات طويلة وقصيرة والدراما إلى أشكال أرسطية وبريختية ولا معقول،
وعلى الرغم من بزوغ أنواع أدبية تنتمي إلى السيرورة الأولى للأجناس الأدبية إلا أن خمسينيات القرن المنصرم شهدت تحولات شكلية جديدة خرجت عن جلباب التنظيرات الأولى التي أرست لها الفلسفة منذ فلاسفة الإغريق حتى فلاسفة الحداثة، فمع بزوغ فلسفة ما بعد الحداثة تهاوت تقانات الحداثة وأصبح النص عبارة عن شذرات متنافرة متفاعلة مبنى ومعنى، إذ لم يعد الحدث الرئيس مهيمناً؛ بل هيمنت فروع سردية متناثرة على بنية النص، ولم يعد المتلقي يعيد ترتيب أزمنة سرود الحداثة مثل الانساق السردية المتناوبة والمتوازية والدائرية وما إلى ذلك؛ بل أضحى الانفلات الزمني بنية قارة في بنية النص، ولم تعد الشخصية الأنموذجية هي النسق السائد بنيوياً؛ بل ساد المهمش بمختلف تنوعاته مثل النسوي والجنساني والزنجي وما بعد الكولونيالي بعد تقويض السرديات الكبرى المهيمنة سابقاً، ليس هذا فحسب؛ بل شهد التجنيس النصوصي انفلاتاً بنيوياً كبيراً، فقد تداخلت الأنواع والأشكال في عالم مهووس بالهدم والبناء.
ولو تابعنا نصوص (نيكروفيليا بشريط ملون) لابتهال بليبل الصادرة عن منشورات أحمد المالكي عام 2019 نجد تمثلات النص ما بعد الحداثي مائزة فيها، فهي هنا ليست كاتبة مقال أو شاعرة أو ساردة؛ بل صانعة نصوص عصية على التجنيس وخارجة من كل التنظيرات السلطوية السالفة، فمع عتباتها الأولى نلحظ أن الغلاف حمل عنواناً من دون أي توصيفات تجنيسية، في حين وصفت الكاتبة مدونتها في الصفحة الداخلية الخامسة على أنها «قصص موجعة ومشاهد مزعجة ومشاهد ترابية لا تبرح الذاكرة»، وهنا يتشظى الوصف بين القصة والمشهد السينمائي والقصيدة والتحقيق والمقال كما سيتضح لنا لاحقاً، وقد تضمنت فاتحة الكتاب احالة جديدة إذ تقول في الصفحة التاسعة «من المستحيل الاقتراب من وحدة أحداهن كي أعرفها بسهولة لمجرد أنني صحافية ميدانية»، إذن نحن قبالة مشاهد حياتية دونتها كاتبة تحقيقات، ليس هذا فحسب؛ بل أعلنت عن رفضها الآخر حينما عرت السرديات الذكورية من قبيل الرجل والقانون والمجتمع.
ولو دلفنا إلى المتن ومع غرة نصوصها (من أنا) نجد بنية تشكيلية متنافرة أجناسياً متأصرة سياقياً، فالعنونة تشي بسؤال وجودي قاهر، سببه سلطة (بطرياركية) متعالية سعت الى تعليب الانوثة على وفق سردياتها الكبرى سواء أكانت لاهوتية أم اجتماعية أم سياسية وقد انعكست بنية القلق في العنونة على بنية المتن الذي كان مشهده الاستهلالي نصاً شعرياً مكتنزاً بالإحالات الدلالية منها افتراض اصابة النساء بـ (المناخوليا) المرض السلوكي المرتبط بالمزاج السوداوي والشعور بالدونية والرغبة بالانتحار وهذا الافتراض الجنوسي مرده الاسقاطات السلطوية التي مورست على النسوية، مما يفضي إلى نسقين مهيمنين، نسق مفاهيمي يحاكم المؤسسة السلطوية ونسق شعري هيمن على مدخل النص ثم تشتغل الكاتبة على توظيف تداعياتها (السيرذاتية) التي تذكر فيها محاولتها في تعلم الكلام والكتابة من خلال جلوسها امام شاشة التلفاز لتكتب الكلمات التي تذكرها الممثلات العراقيات.
وهنا نلحظ تحولا بنيويا على مستوى التشكيل النصي الذي تمحور على محورين، الاول التحول من الشعر الى جنس اخر هو الكتابة السيرذاتية والثاني محاولة الكاتبة في تأسيس وعي نسوي مختلف يجعل من المرأة الانموذج مركزا لها، ولم تكتف الكاتبة في نصها الاول بذلك بل شهد النص تحولاً جديداً الى مسرد بشعرية قصيدة النثر تارة وبسيناريو (مونودرامي) تارة أخرى لتنتقل الكاتبة بعدها الى نص جديد متداخل الشكل بين التحقيق والمقالة حينما تتحدث عن المرأة التي تعمل في نبش النفايات من اجل الحصول على بعض الدنانير، وحينما سألت الكاتبة النباشة عن سبب عملها بالنفايات وصفتها النباشة بــ (الفايخة) بسبب مظاهر المدنية البادية على جسد الكاتبة من ازياء وإكسسوارات، ومفردة (الفايخة) هي خطاب تقويضي داخل بنية (الجندر) الواحد، فالنباشة تحاكم المتمدنات والموظفات والثريات بهذه المفردة وهذا ما يطلق عليه منظر النقد الثقافي (فنسنت ليتش) (التمأسس) أي محاكمة التسلط من داخله، وقد أفاضت الكاتبة في تحليل المصطلح حينما أشارت الى الغيرية الجنسية سواء أكانت في حكاية النباشة أم حكاية صديقتها سحر.
ولم يختلف نص (نيكروفيليا بشريط ملون) عن سابقه، فقد تشظى التشكيل الاجناسي للنص، فمنذ العتبة يجد المتلقي نفسه قبالة مشاهد من (الدستوبيا) المرتبطة بالجنس مع الاموات، في حين وظفت الكاتبة في الاستهلال النصي نصا من ملحمتي (الالياذة والأوديسة) حينما مارس (أخيل) الجنس مع جثة ملكة (الامازون)، ثم تعمد الكاتبة الى تحليل هذا السلوك المرضي من خلال طروحات (فرويد) و(جون دوي) بعدها نلحظ توظيف الكاتبة لحكاية المرأة التي تسكن في مقبرة العاصمة ولكن شهد المصطلح السلوكي انزياحاً عن معياره النفسي الى معيار آخر تمثل من خلال التعالق الاجتماعي والنفسي بين المرأة والموتى ثم تترك الكاتبة سؤالاً وجودياً نفسياً مهيمناً، هل كانت هذه المرأة مصابة بـ(النكروفيليا) الحديثة والمتطورة كما عصرنا؟ لتفتح باب التأويل الذي لا يغلق، ولم يخل النص من توظيف قصيدة النثر المتعالقة مع الموضوع حينما تقول في الصفحة السادسة والستين «جلست هي على قبر مهدم، تصوب نظراتها على أزرار قميصي».
ابتهال بليبل كاتبة عارفة بمشغلها النصي الذي مازجت فيه بين القصيدة والتحقيق والمقالة والسرد والتحليل العلمي في بنية تشكيلية متنافرة متعاضدة خلخلت بها يقينيات الجنس الأدبي وفتحت باب التجريب على مصراعيه.