سحرُ التَّأصيلِ في الأعراف التَّداوليّة
ثقافة
2020/11/06
+A
-A
د. جاسم الخالدي
دأبت د. بشرى موسى صالح في عموم منجرها النقدي، الذهاب إلى المشاريع النَّقديّة التي تتطلب مسعًى نقديًّا يزيح الالتباس عن كثير من المفاهيم والنظريات النقديّة الحديثة التي أخذت حيزًا كبيرًا من الظهور في المشهد النقدي، لتكون بين يدي النقاد والمعنيين، بقدرة نقدية عالية، ولغة علمية رصينة لا تقبل التأويل. وهو أمر يمكن ملاحظته منذ كتابها (الصورة الشعريّة) الذي حاورت فيه كل ما قيل بشأن الصورة قديمًا وحديثًا، مرورًا بكتبها: (نظرية التلقي) و(المرأة والنافذة) و(المفكرة النقدية) و( لعبة المتاهة) و( بويطيقيا الثقافة) التي ناقشت فيها النظريات والمناهج النقدية ومقولات النقد الثقافي برؤية نقديّة واضحة.
وفي كتابها الجديد «الأعراف التداوليّة في التراث النقدي العربي» الصادر عن دار ميم للنشر في الجزائر، 2019. تمضي قدمًا في مشروعها النقدي لتقدم رؤيتها الخاصة للنقد التداولي الذي أخذ حيزًا كبيرًا في الانتشار والتداول في الدرسين: اللغوي والنقدي العربيين.
ضم الكتابُ إضاءة بالنقد التداولي (في الطريق إلى التداوليّة) وعددًا من الدراسات التي حاولت أن تحيط بالأعراف التداولية في النقد العربي القديم، فقد عرفت النقد التداولي بأنَّه « جزء أصيل من هذا الحراك يمنحُ للنظر النقدي إمكانات فلسفيّة ومعرفيّة تقارب(البعد التواصلي) أو(التواصليّة) التي يقوم معمارها على العلاقة التي تربط منتج القول بمتلقيه عبر الوسيط الناقل للعلامة التواصلية بين المتحاورين».
لقد تجلت القدرة النقديّة الهائلة للناقدة في الجانب التطبيقي من الكتاب الذي عاينت فيه النقد العربي القديم في ضوء الأعراف التداولية. وهو ما يتطلب ثقافة نقدية قديمة تمكنها من قراءة السفر النقدي القديم، وثقافة حداثوية تمتدُ الى المناهج النقدية السياقية والمناهج النصيّة.
لقد اختارت عددًا من الكتب النقدية القديمة لتسلط الأضواء عليها، لعدد من النقاد عرفوا بأنّهم من أصحاب المشاريع النقدية الكبيرة التي أسست للنظرية النقدية العربية القديمة، مبتدئة بـ : ابن طباطبا عبر دراستها: (المعاييرالتداولية في نقد ابن طباطبا العلوي)، فقد عدّت كتابه ( عيار الشعر) فعلًا تداوليًّا، يقوم على الرؤية النقدية التّداوليّة ابتداءً من عتبة العنوان مرورًا بمتنه الذي يحفل بعددٍ كبيرٍ من المعايير التَّداوليَّة. ورأت أنّ الحجاج النقديّ القائم على الموازنة بين الشعر والنثر والحدود الفارقة بينهما. هو ما جعل ابن طباطبا يستدرك على الصنعة بالمران أو المدارسة، لكي تكون حدًّا تداوليًّا بين المنتج والمتلقي.
وفي الدراسة أخرى توقفت عند «المصاحبة التَّداوليَّة في نقد الآمدي»، بدءًا من العنوان مرورًا بالمتن، على غرار ما فعلته مع كتاب (عيار الشعر)، مع فارق بسيط، أن الكتاب الأوَّل وضع المعايير لكتابة الشعر بطريقة مثاليّة، في حين أن الآمدي انتخب معيارًا مثاليّا متمثلًا بشعر البحتري، وجعله قوام ما تعارف عليه بـ(عمود الشعر). ورأت في الأخير عمودًا تداوليّا، حاول الآمدي أن يجعل منه تداولًا عرفيّا للعمود ممثلًا بشعر (البحتري) على حساب كسره في شعر(أبي تمام). واقترن لديه بما سمته الناقدة (الصاحب الضمني) الذي تعادل دلالته دلالة (القارئ الضمني) في نظريات القراءة
والتلقي.
وفي المحور الثالث وقفت عند «تداولية الشعر المحدث في نقد القاضي الجرجاني»، مسبرة غور كتابه» الوساطة بين المتنبي وخصومه»؛ لترصد البنى التداوليّة التي تزخر بها نصوصه النقديّة، وقد بنت أطروحتها التداوليّة على مقولة القاضي الجرجاني (انَّ الألفة في المعايير تحجر الشعر، وتجعله مكرورًا مملولًا)؛ لتستنبط منها أنَّ أمر تلقي الشعر يعود إلى سياقات خارجيّة، لا تنظر للشعر بعين الانصاف أو بعين الوعي الشعري المدرك لماهية الشعر، مما يجعلها بعيدا عن جذوة الشعر وقيمته الفنية الحقيقيّة. ولكي تستكمل دائرة المدونة النقدية القديمة، وقفت عند (عبد القاهر الجرجاني) في كتابيه (الأسرار والدلائل) لتستبطن الأعراف التَّداوليّة التي يزخران بهما.
وقد استهلت رؤيتها بأن هذين الكتابين يمثلان كتابًا واحدًا، لأنهما يعالجان قضية واحدة هي الاعجاز القرآني، أو (المقصدية الدينية الكبرى)، لذلك نجده في (الدلائل) يبحث عن الحجاج النقدي الذي يعاين العلامات العقلية أو النقليّة، وتدفع باتجاه تأكيد فرضية الكتاب الأولى.
ولعل أول فاعلية تداوليّة استوقفت الناقدة هي الحجاج، عبر تقديم حزمة الحجج العقليّة والنقليّة للمتلقي الفعلي أو الافتراضي الذي يبتكره الجرجاني. وهو لا يخلو من مقصديةٍ ظاهرةٍ تتعلق بالغاية التّداوليَّة التي من أجلها ألف كتابه، وهي الدفاع عن مفهوم (الإعجاز القرآني).
كما أنّها أشارت إلى (المفهوم النسقي) الذي أشاع الجرجاني في (الأسرار والدلائل) على حدٍّ سواء؛ إذ عدّته منطلقًا نقديّا تتحدر منه المصاحبة الخطابية لتأسيس خطابٍ بلاغيٍّ جديدٍ يقوم على الانزياح (النسق التخييلي) والاقناع ( النسق المنطقي) والتداول (النسق الجمالي النفعي).
ولكي تحيط الناقدة بالجانب التداولي في نقدنا القديم وتستكمل الدائرة التداوليّة، خصصت الجزء الأخير من كتابها للوقوف عند ( المنهاج التداولي في نقد حازم القرطاجني). إذ عدّت كتابه المنهاج محاولة في استقراء الشعر العربي في مظانه الكبرى، في ضوء نظرة أرسطو في تقسيم أجناس الشعر وأنواعه، لتنطلق من هذا، في رصد التداول الذي حفل به متن الكتاب كله.
ووفقًا للطريقة التي رتَّب القرطاجني كتابه، وتصنيفه إلى المعنى، والمبنّى، والأسلوب، سارت الناقدة لتقف على مقدار التداول الذي حفل به كل باب.
ففي قسم المعنى « يوضع المعالم النقديّة التداوليّة للمعاني الشعريّة المثاليّة السائرة في فضاء القبول والاستجابة العربيّة، بما يصحُّ أن يكون دليلًا يسترشدُ به الشاعر للدخول في هذا الفضاء».
أمّا المباني، فقد ارتبطت كالمعنى بالحجاج بأنواعه الثلاثة ( العقلي، والنفسي، والذوقي)، الا أنه في المعاني أكثر افصاحًا مما يرتبط بالمباني والأسلوب، وتعزو ذلك إلى أنّ « للمعنى سياقين عام وخاص، مما يجعل سيرورة التداول أكثر إفصاحًا وعمقًا؛ إذ يأخذ الحجاج في المعنى والأسلوب طابعًا فنيًّا وإجرائيًّا أكثر من كونه معنويًّا ودلاليًّا». وتختم الناقدة دراستها بالأسلوب؛ إذ ترى أنَّ حجاجه الأسلوبيّ» يعبر عن القِران بين الألفاظ والمعاني المشكلتين للبنيّة الشعريّة، وثمَّ للأسلوب، وذلك لرفضه النظرة الأحادية التي تنظر إلى اللفظ وحده بوصفه أساس العمل الأدبي».
اخيرًا يمثلُ كتابُ (الأعرف التداوليّة) قراءةً متعاليةً للنص القديم في ضوء آليات (النقد التداولي) الذي حاولت الناقدة التأصيل له من مظانه الخاصة، وتقديم رؤيتها الخاصة التي انعكست في عموم متن الكتاب، فضلًا عن أنّها أرادت أن تقدم درسًا نقديًّا تطبيقًا لهذا المنهج الذي لمَّا يزل مدار حديث بين النقاد حول صلاحيته لقراءة الشعر من عدمها، فضلًا عن صلاحيته النقدية في استنطاق النصوص النقدية.