مشعلو الحرائق الإعلاميّة!

آراء 2020/11/06
...

 د.محمد فلحي
 
 
لا تقل الحرائق الإعلامية خطورة عن الحرائق الحقيقية، التي تجتاح بين مدة وأخرى مناطق حول العالم وتزهق الأرواح وتصيب الاقتصاد بأضرار فادحة، وقد تسجل قضيتها في الأغلب( ضد مجهول)!  الكاتب السويسري ماكس فريش طرح قبل نحو سبعين عاماً في مسرحيته «مُشعلو الحرائق» الجوانب المبدئية والأخلاقية في قضية الخضوع الذي يسمح لمشعلي الحرائق أن ينفّذوا هذه الجريمة وامتدادها من الغابة إلى البيت الذي يحميهم، نتيجة صمت وتواطؤ وخوف صاحب البيت(بيدرمن)، الذي كان يتعامى طوال الوقت عن رؤية الحقيقة، حيث وصلت النار إلى بيته أخيراً!  ليس من الصعوبة في الساحة الإعلامية التي تهيمن عليها مواقع التواصل الاجتماعي المفتوحة من دون قيود، أن يقوم شخص ما باستفزاز مشاعر الرأي العام،عبر افتعال أزمة ذات طابع ديني أو طائفي أو قومي، ويمكن أن تكون بداية الشرارة من خلال خبر زائف أو شائعة مصطنعة أو عبارة جارحة أو صورة وقحة أو مشهد صادم، ثم تجتاح النيران النفوس الملتهبة، تعقبها موجات من التداعيات وردود الأفعال والعنف والعنف المضاد، وهناك أمثلة لا حصر لها في صفحات التاريخ، حول بدايات الحروب والنزاعات في ظل بيئة تعصبية متوترة!
 يمكن القول إن الكثير من القنوات الفضائية متورطة حالياً في لعبة النار وإشعال الحرائق، التي تهدد الجميع، ومن أبرز مظاهر اللعبة التلفزيونية الخطرة تكرار ظهور متحدثين في البرامج الحوارية أصبح الجمهور يعرف دورهم المكشوف في صنع الحرائق والرقص حول النار والهلوسة عند رائحة الدخان، ولعل من مخاطر هذه اللعبة أنها تتفاعل مع جمهور منقسم وشارع ملتهب! الإعلام يوصف بمهنة الحق والحقيقة والمعلومات، وقواعده الصدق والموضوعية والاتزان، أما الحيادية فهي من الخرافات التي يدرسها طلبة الإعلام لكنهم لا يعثرون عليها في دهاليز المهنة!  نستطيع تحديد صفات مشعلي الحرائق الإعلامية من خلال الظهور المتكرر غير المسوغ، في قنوات عدة، وفي برامج مختلفة، والتحدث بصوت مرتفع، تحت عناوين متعددة مثل: محلل سياسي أو مفكر أو خبير ستراتيجي أو أمني، وبعضهم يتولون مناصب رفيعة، ولا يتورع هؤلاء عن الخوض في حوارات متشنجة حول موضوعات جدلية وقضايا خلافية، في ما يشبه حلبة المصارعة أو لعبة جر الحبل، أمام جمهور يريد الحقيقة فلا يجدها في الأغلب، لأن اللعبة خرجت عن القواعد المعروفة، وأصبحت خاضعة للكذب والجهل والشهرة والانحياز والنفاق والابتزاز والفساد، ولكي نكون منصفين لا ينبغي تعميم الظاهرة، فهناك متحدثون إعلاميون يحترمون جمهورهم وأسماءهم وتاريخهم ومهنهم وشهاداتهم العلمية في ما يقولون، لكن أصواتهم الخيرة الراقية قد تبدو مبحوحة وسط الحرائق المشتعلة!