أ.د. باسم الاعسم
تشكل ملحمة الطف رصيداً هائلاً من الشخصيات المتنوعة والصراعات المختلفة والقيم الفكرية الأخلاقية والتربوية والسياسية، فضلاً عن المبادئ الإصلاحية التي تمثل جوهر الثورة الحسينيَّة وغاية الطف النبيلة التي تعين المؤلفين والمخرجين على إعداد نصوص مسرحية وتقديم عروض مسرحية درامية ذات مقاربات اخراجية تجديدية تنأى عن المحاكاة التشخيصيَّة لأنَّ مسرحة الطف تستوجب تمتين أواصر الصلة الوجدانيَّة مع الملتقي المعاصر, وهذا الأمر لن يتحقق من دون الاحتكام الى اشتراطات التأليف الدرامي الرصين ومعايير الإخراج المسرحي الحديث التي ترتقي بالفعالية الإخراجية وتسمو بنص خطاب العرض المسرحي فنياً وجمالياً وفكرياً.
الاختلاف عن التشابيه
إنَّ النص أو العرض الذي تكون مرجعتيه واقعة الطف يجب أنْ يختلف كليا عن التشابيه التي تقدم في الشوارع والساحات العامة كما وردت على ألسنة الرواة وعادة تكون ثابتة على صعيد الأحداث والشخصيات والحبكات والمنطلقات وطبيعة طقس المشاهدة وزمن العرض, إذ إنَّ عروض التشابيه تقدم في نفس زمان الواقعة ومرة في السنة توافقاً مع طبيعة وتاريخية الواقعة لأنها محاكاة تشخيصيَّة تسعى باتجاه عنصر المطابقة على صعيدي الأحداث والشخصيات خاصة، أي بمعنى تحقيق أعلى درجات الإيهام المسرحي بقصد التجسيد الواقعي لاستدرار عواطف المتلقي وانهمار دموعه بما يتوافق مع أفق توقعه.
لذلك يجهد الممثلون أنفسهم في كسب تعاطف المتلقين والعارفين سلفاً بحوادث الطف فيرتدون الأزياء الملونة ذات الدلالات السيميائيَّة والاكسسوارات المرتبطة بفعل المعركة كالسيوف والرماح والخيام والأقواس الى جانب الخيول كعلامة كبرى دالة على الحرب.
وقبالة تلك الفعالية الدراميَّة الطقسيَّة تبرز الحاجة الى تقديم عروض مسرحية ذات نصوص تنهل من واقعة الطف فتقترب منها في موضع وتلامسها في مواضع أخرى، أي أنْ يخير المؤلف نفسه عبر كاميرا عقله في اقتناص جوانب محددة على صعيد الأحداث أو الشخصيات تدل على فضاء الواقعة, لكنها تختلف على مستوى الرؤية والمعالجة، إذ ليس شرطاً أنْ يلتزم المؤلف بجزئيات الواقعة أو الحدث التراجيدي بكل دقة كما لو كان مؤرخاً ما، بل يختار جانباً يشير بوضوح مشفر الى جوهر الحدث.
إنَّ مسرحة الطف تقتضي الإجابة على التساؤلات الآتية:
* هل بالإمكان كتابة نصوص درامية محكمة تستفيد من واقعة الطف بحيث ترتقي بالواقعة ولا تسيء إليها على وفق رؤية معاصرة؟
* ولما كانت التشابيه محكومة بالثوابت فهل يمكن للمؤلف المسرحي أنْ يبيح لنفسه حرية تقديم بعض الشخصيات والأحداث بحسب رؤيته الدراميَّة فيضيف ويحذف ما يراه مناسباً من دون المساس بجوهر المحذور أو المقدس؟
* إنَّ التشابيه صورة عن الطف فهل تقدم نصوصاً مسرحية تمثل صورة مستنسخة عن صورة ثانية أي صورة عن صورة؟
نصوص درامية محكمة
إنَّ الأهم هو كتابة نصوص درامية محكمة البناء وكبيرة كبر الواقعة مثلما فعل عددٌ من المؤلفين وفي مقدمتهم عبد الرحمن الشرقاوي وعبد الرزاق عبد الواحد عندما كتب مسرحية (الحر الرياحي) التي تناول فيها جانباً من الطف والنص بحقيقته قصيدة ممسرحة لكنَّ المؤلف أدرك بوعي تقنيات النص الدرامي المؤثرة ومقتضيات العرض المسرحي الشائق فهو يخرج النص في ذهنه قبل أنْ يدونه، بحيث أبدع في إنتاج الصور الدراميَّة المؤثرة والمزدانة بالشعريَّة والقلق والإدهاش، إذ عول على الهواجس الداخليَّة لشخصيَّة (الحر الرياحي)، وكذا (الشمر)، فعرف كيف تتوثب الأفعال الدراميَّة الصادمة والمتشحة باللغة الشعريَّة الفصيحة المشبعة بالرؤى والدلالات والصور الجمالية المائزة عندما سلط الأضواء على الشخصيات ووظف الأنساق الصوتيَّة والصوريَّة.
لقد تفرد الشاعر محمد علي الخفاجي في مسرحة بعض الأحداث والشخصيات في نصوصه كما الحال في مسرحية (الجائزة) فهو لم يتعامل مع أحداث الطف بواقعيَّة فوتوغرافيَّة، بل انتقى حدثاً وبنى من ذخيرة مخيلته أحداثاً وصوراً افتراضيَّة ذات إسقاطات معاصرة أحاطت بالحدث الرئيس واشتبكت معه ودلت عليه بمهارة عالية وحس شفيف، في حين إنَّ بعض المسرحيات اقتربت جداً من فضاء الواقعة أو التشابيه فضاقت مساحة الاختلاف والابتكار.
تسخير المخيلة
إنَّ مسرحة الطف تستوجب تسخير المخيلة واستحضار العناصر الدراماتيكيَّة
المؤثرة والمشيدة لنص خطاب العرض المسرحي, ومحاكاة جوهر الخطاب,
عبر لغة شعرية وشاعرة, وشخصيات مثيرة للجدل تصاغ وتقدم على وفق مقاربات تتسامى على المحاكاة التقليديَّة البسيطة,
لكي يبلغ الإنشاء البصري ذروته باتجاه تحقيق الاستجابة الجماليَّة الوجدانيَّة لدى المتلقي.
إنَّ الاهم أنْ يترك النص أو العرض صداه المدوي في ذاكرة المتلقين على مر الأجيال عبر شخصيات وأحداث منسوجة ببراعة الصائغ الماهر والمؤلف الدرامي المؤثر, بحيث تكون اللغة المنتقاة ببراعة هي الوسيلة المثلى للتعبير عن جوهر الأحداث مثلما فعل المؤلف (عبد الرحمن الشرقاوي) في تلك المحاورة الذكية النابهة التي دارت بين الوليد أمير المدينة الذي طلب من الحسين (عليه السلام) أنْ يبايع يزيد إذ نقرأ:
الوليد: نحن لا نطلب إلا كلمة
الحسين: أتعرف ما معنى الكلمة؟ مفتاح الجنة في كلمة, ودخول النار على كلمة, وقضاء الله هو الكلمة, الكلمة نور, وبعض الكلمات قبور, الكلمة فرقان ما بين نبي وبغي, والكلمة حصن الحرية, الكلمة مسؤوليَّة, إنَّ الرجل هو الكلمة, شرف الرجل هو الكلمة, شرف الله هو الكلمة.... الخ.
تلك هي البصمة الإبداعية التي خلفها المؤلف عبدالرحمن الشرقاوي وهو يمسرح الطف, حتى أضحت تلك الكلمات تردد على ألسنة الناس مثلما هي كلمات هاملت, فذلك هو الفوز العظيم.