أحمد الشطري
(ما ناديتُكَ كي أستغيثَ
هو اسمُكَ يتكاثرُ في فمي).
بلغة شفافة وبنبرة هامسة تقدم الشاعرة آمنة محمود نصوصها، التي تنساب كلماتها ببساطة ودفق ووضوح متحررة من سطوة التكلف والتصنع، ومع ذلك فإن نصوصها تجيء محملة بصور مدهشة، وبجماليات مبهرة. وفي مجموعتها (كتاب الحب) الصادرة عن وزارة الثقافة العراقية ضمن فعاليات كركوك عاصمة الثقافة 2010، ترسم آمنة محمود ثنائية (الأنا والأنت) بخطين يختلفان ويتفقان في مساراتهما بين حين وآخر، ورغم الرغبة العارمة في أغلب الأحيان عند (الأنا) في الاتحاد الذي يصل أحيانا الى حد الالتحام والانصهار في (الأنت)، إلا أننا نلمس في الغالب خيبة أمل ويأس ومرارة باستحالة هذا الالتقاء او هذا الالتحام، وفي خضم هذا الصراع بين (الأنا والأنت)، نجد أن (أنا) الشاعرة تتجلى بصور مختلفة، ولكن تبقى صورة الانكسار مترسخة في العمق السحيق للأنثى (الشاعرة)، رغم المحاولات المصرة على كسر نمطية تلك الصورة المستسلمة والمُستسلِبة. بينما تبقى صورة (الأنت) متحكمة ومتسلطة ونافرة وسادية في أغلب الاحيان.
في أول نصوص المجموعة وفي الجملة الاولى تحديدا، تعكس لنا الشاعرة أول صورة لتجلي الأنا فتقول: (كم أجيد تعذيب ذاتي). ومن خلال هذه الجملة تتكشف لنا صورة لطبيعة مازوشية تكمن في ذات الأنثى الشاعرة، وهي كما يبدو تصر على إجادة ذلك التعذيب الذي يتضح من قولها: (بل وأحسن أن أبقيها معلقة/ بين سماء لا تستجيب/ وأرض لا ترعوي..) ص2.
ومع استغراقنا في قراءة النصوص الاخرى نجد أن تلك الطبيعة تترسخ بإصرار ملفت، ففي نص (حبك حرام) تقول: (أعلم أنك خطأٌ فادحٌ/ لكني أحبك... أعلم أنك ذنب كبير/ لكني أحتاج اليك... أعلم أنك لن تأتي../ لكني سأبقى على أمل) ص26.
ولكي تؤكد استمتاعها بهذا العذاب ترسم لنا صورتها بهذا الشكل المحزن: (هنالك نرجسة/ تنمو على مقصلة عاطلة/ كم تشبهني وأنا انتظرك)، ولكي تبرر هذا التمتع بالتعذيب تتخذ من نحو اللغة العربية سنداً وحجة لهذا الانكسار: (اللغة العربية لا تحتمل التقاء ساكنين/ لذا كان لا بد لأحدهما أن يُكسر/ وحتما ستكون تاء التأنيث) ص19، ومن خلال هذه الحتمية نستشف أن هناك قناعة مترسخة أن الانكسار لا بد أن يكون في ذاتها، ذات الأنثى، وهذا كما يبدو من خلال ما تقدم أنه يعيش مستقرا في عمق تلك الذات من دون مقاومة او رفض.
وفي تجلٍّ آخر لصورة لـ (الأنا)، نلتقي بتلك الأنثى القوية الرافضة للانكسار والاستسلام صورة (الأنا) الثائرة، الصلبة والنرجسية: (الآن صار بإمكاني انتزاع أيَّ شعور في نفسي نحولك/ صار بإمكاني انتزاعك أنت... / ولأني أنوية وأعشق نفسي/ فلن أرضى لها الجلوس في مقعد القلق بانتظار أن تنام امرأة حقيقية كي أحتل بالوهم.. مكانها.) ص39. إذن هي هنا تحاول أن تغير تلك الصورة السالبة المترسخة في العمق السحيق في ذات الانثى:
(أحاول أن أجد محلا لتاء التأنيث.../ تماشيا مع حقوق المرأة/ وأن أثبتها على السكون كي تسلم)31.
بينما تتجلى صورة (الأنت) بشكلها الدال على القسوة والخيانة والزيف والكذب: (منحتنا عشقا أكذبيا/ وخلفت خذلانا وراءك) و(لك راية مزيفة بحجم خدعة) ص10، ثم تتجلى تلك الصورة بالذات المصابة بالشيزوفرينيا: (حاول أن تفهمني الحقيقة/ لماذا كلما أخبرتني أمرا يقف خلفك إنسان آخر/ كأنه أنت../ لكنه يقول عكس ما تقول) ص32.
ولكن صورة (الأنت) هذه ما تلبث أن تتجلى بصورة الطفل الوديع (تشبهين أمي)؛ ولذلك يتحول الى ملاك (مشكلتك: أنك أقرب الى الملائكة من البشر). ثم يتجلى بصورة المُخلص: (أنت لم تكترث لواحدة عداي/ هكذا أخبروني.. وهكذا صدّقتُ/ مازلن يرفرفنَ حول حزنك/ ما زلت تغلق حواسك على طيف هاربة) ص60، ومن ثم فهي تبقى تقدم نفسها بصورة العاشقة الواثقة من صدق معشوقها: (يحاولون: تشويه صورتك/ يجهلون أن الأصل ما يزال معي) ص33، ولأنه محمل بهذه البراءة- براءة الطفل وبراءة الملاك- وما يرافق ذلك من دلائل الاخلاص فهي إذن حريٌّ بها ان تقدم له الحب وبألوان متعددة: (أحبك بحب: يحاصرني طيفك في تغريد بلبل الصباح.../ أحبك بحياة: ما زالت في رحم الايام.../ أحبك بحنان... أحبك بشوق: لأنك أنا اشتاق إليَّ من خلالك/ واشتاق إليك من خلالي لأنني أنت) ص45.
ومن ثم فإن هذا الحب سينقلنا الى تجلٍّ آخر يظهر فيه بوضوح الأثر الصوفي في تعبير الشاعرة، تجلٍّ نجد فيه تلاحم وتكامل وفناء (الأنا بالأنت)؛ ليكونا ذاتا واحدة: (كم أنت أناي/ وكم.. يمنعون عني الأنا، فمن أنا إنْ لم أكن أنت؟)، هذا الانصهار في الآخر هو صورة مثالية لشطحات الصوفيين، اذن هو تجل للأنا الصوفية تلك الانا التي تجمع بين الانسلاب الطوعي للذات والقناعة والرضا بأدنى عطاءات المحبوب، بل هي حالة الذوبان التام في المحبوب فلا ترى الاشياء الا من خلاله: (أينما أكون تكون قبلي في المرآة والدواة../ تفتح لي باب الحلم.. تسبقني/
حتى صرت ضيفة نفسي/ يا قبلي وأناي... وكلي) ص46 حتى تصل الى: (فأراني.. قطعة من السماء تسير على الأرض: بك ومن
خلالك).
ولكنها وبرغم هذا الفناء في (الأنت)، تجد نفسها في لحظة اخرى تتحول الى تجل آخر يتمثل بصورة (الأنا) اليائسة: (سأحتضن نفسي طويلا/ وأواسيها بـ (لابأس يا نفسي) فاليأس أهون أحيانا من أمل بلا رأس) ومن ثم فإن نتيجة هذا اليأس أنها ستكره الحب: (أكره هذا الحب ../ الذي يُحيلني الى مشبوهة بالغياب في أيِّ آن.) ص48. وبعد ذلك تبقى ان نشير الى ان نصوص هذه المجموعة وبما حفلت به من صور شعرية ولغة اتسمت بالرقة والعذوبة تعكس للقارئ مدى النضج الفني والابداعي في تجربة الشاعرة آمنة محمود، وتمكنها من ادواتها الشعرية، ومن ثم فهي تقدم لنا نصوصا ثرية بجمالياتها وعمقها وصورها البديعة التي تشكل قوة جذب وادهاش كبيرة ورصينة.