حميد المختار
إذا كانت الكلمة مسؤولية، وهي التي تم خلق الكون بها، وبها ينبعث من جديد، فإن الصمت أكثر مسؤولية وقداسة منها، لأنه الوقت السابق المعاش من قِبل الرب. الرب الذي طوق ذاته الإلهية بصمت مطبق وصار يتحاور مع عباده بالإيحاء، حتى حينما يحاور إبليس عن العبادة والعصيان، تم الأمر كله بصمت قدسي ضاج بالغضب الإلهي على عصيان إبليس ورفض الانحناء لآدم، حتى آدم وحواء وهما في الجنة حين تعرضا للإغواء ذاته، جاء كل ذلك عن طريق الوساوس، لأن الشيطان حينما يحاور الانسان يوسوس في صدره بينما الرب يكلمه بالإيحاء، وهكذا ما إن خاطب الملاك جبرائيل الرسول: باقرأ، أجاب ما أنا بقارئ. كان الرسول يعيش فترة صمت وعزلة وعبادة وانقطاع، لكن الملاك جبرائيل أعلن عليه الكلمة وبدء عهد الكلام. هذا كله لم يأتِ من فراغ، إنما جاء من صمت طويل. فنحن جئنا من صمت وسنعود الى صمت. الملائكة صامتون بصمت يشبه صمت الآلهة لولا التسبيح الذي له طنين.
النوم صمت، الأكل صمت، القراءة صمت، الكتابة صمت، الإيروتيكا صمت، فعاليات الجسد التي تتناغم مع الروح، هي فعاليات صامتة تختلف عن لغته حين يتحرك، لأن الجسد ترابي بامتياز لذلك اتخذ لنفسه لغة ضاجة بالحركة والثرثرة، الجسد ثرثار لهذا فهو يخون ولا يحفظ الكلمة التي يطلقها بينما الروح صامتة لأنها مقدسة وهي أكثر قداسة من قداسات الديانات وعباداتها. في الأدب يدخل الصمت كملكوت عبر رسائل وشيفرات.
نجيب محفوظ في روايته ثرثرة فوق النيل أرسل عبر ثرثرة أبطاله رسائل سياسية تدين مرحلة مهمة من المراحل التي مرت بها مصر. بينما فيلم صمت الحملان، اتخذ صانعو الفيلم من الصمت لغة يمارسها وحش بشري وهي عودة الى روح السيد المسيح وخوفه على حملانه من الضياع والموت.
صمت الحملان جاء من صمت الرب الذي يتقابل مع وحشية صمت القاتل البشري. يقول السيد المسيح عليه السلام «العبادة عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت والعاشرة في الابتعاد عن الناس». ولقمان الحكيم يوصي ابنه «الصمت حكم وقليل فاعله». فاعلو الصمت وممارسوه حكماء وفلاسفة وعرفانيون ومتصوفة وعباد زاهدون وشعراء ومنجمون ورهبان وملائكة وآلهة قديمة قدم نشوء العالم. لولا الصمت، ما كانت الكلمة، ولا نشأت اللغة.
صمت الغيمة يمطر كلاما يبلل أرواح العابرين، صمت البحر لغة ضاجة بالعشق، صمت الجمال حرفة الآلهة في رسوم جماليات الارواح البشرية وهي تنطوي على جمال الجسد. لا نريد اللغة أن تتحول إلى ضجيج وثرثرة، فأمام انسحاب الصمت وانحساره عن حياتنا تحولت اللغات الى لعبة يومية لقتل الانسان وسحقه، لا بد من لحظة صمت لاسترجاع هدوئنا واسكات هواجسنا وخوفنا. فاللغات آلة موت وفتك إن لم نحسن تنظيمها وتشذيبها من الصخب العالق بها، دعونا نترك مخاوفنا اللغوية ونستمع قليلا الى صمتنا الحكيم، ربما نصل ذات يوم إلى النيرفانا.