كيف كافح كُتّاب العصور الوسطى لفهم الموت الأسود؟

ثقافة 2020/11/07
...

 كريستون ر. ريني 
 
ترجمة: جمال جمعة
 
ثمة طاعون ذو أبعاد خطيرة يدمر العالم. لكن هذه ليست هي المرة الأولى، فبين عامي 1347 ــ 5113، قتل الموت الأسود، في كل مكان حلّ به، من عُشر إلى نصف (أو أكثر) من سكان أوروبا.
أحد المؤرخين الإنجليز، توماس والسينغهام، لاحظ كيف غيرت هذه «الوفيات الكبيرة» العالم المعروف: «المدن التي كانت ذات مرة مكتظة بالناس أُفرغت من سكانها، وانتشر الطاعون بشكل كثيف لدرجة أن الأحياء لم يعودوا قادرين على دفن الموتى». مع ارتفاع عدد القتلى بمعدلات متسارعة، تضاءلت الإيجارات، وأقفرت مساحات كبيرة من الأراضي «بسبب نقص المستأجرين الذين اعتادوا زراعتها ...»
كمؤرخ للعصور الوسطى، كنت أدرّس موضوع الطاعون لسنوات عدة. وإذا لم يكن هناك من شيء آخر، فإنّ مشاعر الذعر بسبب وباء كوفيد 19 تذكّرنا بالموت الأسود.
مثل أزمة اليوم، كافح كتاب العصور الوسطى لفهم المرض. النظريات عن أصوله وانتقاله تكاثرت، بعضها أكثر إقناعًا من البعض الآخر. مهما كانت النتيجة، «..تلا ذلك بؤس عظيم»، كما كتب مؤلف إنجليزي آخر، كانت ثمة خشية من أن العالم «لن يكون قادرًا على استعادة حالته السابقة مطلقاً».
 
وباء بلا حدود
قدَّم كُتّاب العصور الوسطى إجابات متنوعة عن أصول الطاعون. كتاب غابرييل دي موسيس (تاريخ المرض) عزا السبب إلى «مستنقع الشر المتشعب»، و «الرذائل التي لا تعد ولا تحصى»، و «القدرة اللا محدودة على الشر» التي أظهرها الجنس البشري برمته، والذي لم يعد يخشى دينونة الله.
كما وصف أصوله الشرقية، وأشار كذلك إلى كيف استورد أهالي جنوة والبندقية المرض إلى أوروبا الغربية من كافا (أوكرانيا الحديثة) «حاملاً سهام الموت»، أنزله البحارة في هذه المدن الساحلية الإيطالية، ومن حيث لا يدرون نشروا «السمّ» بين معارفهم، وأقاربهم، وجيرانهم.
احتواء المرض بدا شبه مستحيل. وكما كتب جيوفاني بوكاتشيو عن فلورنسا، كانت النتيجة أكثر حدّة لأن الذين يعانون من المرض «اختلطوا بأشخاص لم يتأثروا بعد ...» مثل «نار تتسابق عبر مواد جافة أو زيتية»، أصبح الأشخاص الأصحاء مرضى.
بامتلاكه القدرة على «قتل أعداد كبيرة عن طريق الهواء وحده»، من خلال التنفس أو المحادثة، كان يُعتقد أن الطاعون «لا يمكن تجنبه».
 
البحث عن علاج
عمل العلماء بلا كلل لإيجاد علاج. كرّست كلية الطب في باريس طاقاتها 
لاكتشاف أسباب هذه الأحداث المدهشة، التي كان حتى «أكثر العقول موهبة» يكافح من أجل فهمها. لجؤوا إلى خبراء 
في علم التنجيم والطب بشأن مسببات الوباء.
بناءً على أوامر البابا، تم إجراء فحوصات تشريحية في العديد من المدن الإيطالية «لاكتشاف أصول المرض». عندما تم فتح الجثث، وجد أن جميع الضحايا لديهم «رئات مصابة».
غير راضين عن عدم اليقين المستمر، 
تحوّل الأساتذة الباريسيون نحو الحكمة القديمة وصنّفوا كتاباً عن المعرفة الفلسفية والطبية الراهنة. 
ومع ذلك، فقد أقروا أيضًا بالعجز عن إيجاد «تفسير أكيد وفهم كامل»، مقتبسين من المؤرخ الروماني بلينيوس الأكبر، لغرض التأثير، قوله إن «بعض الأسباب العرضية للعواصف لا تزال غير مؤكدة، أو لا يمكن تفسيرها».
 
العزلة الذاتيَّة وحظر السفر
الوقاية كانت حرجة. الحجر الصحي والعزل الذاتي كانا من الإجراءات الضرورية.
في عام 1348، ولمنع انتشار المرض عبر إقليم توسكان في بيستويا الإيطالية، فُرضت غرامات صارمة على حركة المواطنين. وُضع الحراس عند بوابات المدينة لمنع المسافرين من الدخول أو المغادرة.
نصّت هذه المراسيم المدنية على عدم استيراد الكتّان أو الملابس الصوفية التي ربما قد تنقل المرض. 
وتوكيداً للقواعد الصحية المماثلة، فإن جثث الموتى كانت تظل في مكانها إلى أن يتم وضعها كما ينبغي في صندوق خشبي «لتجنب الرائحة الكريهة التي تفوح من الجثث». 
علاوة على ذلك، فإن القبور كانت تحفر «بعمق ذراعين ونصف».
القصابون وتجار التجزئة ظلت أبواب متاجرهم مفتوحة بالرغم من ذلك. مع هذا، فإن مجموعة من القواعد تم فرضها لكي «لا يمرض الأحياء بسبب الطعام المتعفّن والفاسد»، مع مزيد من الحظر لتقليل «النتانة والتعفّن» اللتين تعتبران ضارتين بمواطني بيستويا.
 
استجابة المجتمع وحلوله
استجابت السلطات بطرق مختلفة لتفشي المرض. وإدراكًا منهم لوصول الطاعون عن طريق السفن، فإن سكان مدينة مسِّينة «طردوا الجَنَويِّين من المدينة والميناء بكل سرعة». في أوروبا الوسطى، الأجانب والتجار أُبعدوا من الفنادق و “أُجبروا على مغادرة المنطقة فوراً».
كانت هذه إجراءات قاسية، لكنها على ما يبدو ضرورية نظرًا لردود الفعل الاجتماعية المتباينة على الطاعون. وكما روى بوكاتشيو في كتابه الشهير (ديكاميرون)، أعقب ذلك طيف كامل من تدرّجات السلوك البشري: ابتداءً من التفاني الديني المفرَط، والعيش الرصين، والعزلة الذاتية، والحمية الغذائية المحدَّدة، إلى درء الشرّ من خلال الإفراط في شرب الخمور، والغناء، والمرح.
أدى الخوف من العدوى إلى تآكل العادات الاجتماعية. تزايدت أعداد القتلى في العديد من المناطق لدرجة أن الدفن اللائق والخدمات الدينية أضحيا من المستحيل إنجازهما: ظهرت عادات دينية جديدة تتعلق بالتهيئة للموت وإقامة طقوسه.
العائلات قد تغيرت أيضاً. تذكر رواية من مدينة بادوفا كيف أن “الزوجة هربت من أحضان زوجها العزيز، والأب من ابنه، والأخ من أخيه». جوهرياً، ثمة عنصر بشري يتعلق بالطاعون غالباً ما يضيع في 
التدوين التاريخي. لا ينبغي التقليل من تأثيره أو نسيانه. الاستجابة الحديثة للجائحة تثير استجابة مجتمعية مماثلة. مع الاختلاف في النطاق والمقياس، وبالتأكيد في الممارسة الطبية، فإن الإجراءات الصحية الإدارية والعامة ما تزال حرجة.
لكن في عام 2020، نحن لا نرى القانون والنظام الاجتماعي ينهاران، كما ندب بوكاتشيو. لا تزال الواجبات والمسؤوليات الأساسية قيد التنفيذ. الحكمة والبراعة تسودان ضد طاعون القرن الحادي والعشرين، والمواطنون يتمسّكون «بنصائح الأطباء وكل قوة الطب»، والتي هي على عكس القرن الرابع عشر، يمكن أن تكون أي شيء سوى أن تكون «فارغة وعقيمة».
 
* كريستون ر. ريني: أستاذ زائر في المعهد البابوي لدراسات العصور الوسطى، وأستاذ مشارك في تاريخ القرون الوسطى، جامعة كوينزلاند، أستراليا.
 
The Conversation