إرادة الخداع.. فلسفة الكذب

ثقافة 2020/11/08
...

  أحمد رافع 
 
 
المفاهيم الكلاسيكية للكذب قامت على أساس الافعال الشريرة، كردة فعل إرادية لسلطة التزييف في تعريفات قديمة، إذ يذهب أفلاطون في مجموعة المحاورات المبكرة التي أطلق عليها المؤرخون «محاورات الشباب» (هيبياس الصغرى) بالقول إن «الكذب نوع من التزييف في مقابل التزييف اللاإرادي، ثمّ إذا كان الكذب نوعاً من الخطأ المتعمد، فإن الخطأ غير المقصود لا يعدّ كذبا»، بينما يكشف أرسطو عن الكذب في الميتافيزيقا الكتاب الخامس في ذلك «الإنسان الذي يميل دوماً إلى استخدام الصيغ الزائفة وينجح بمهارة في أن يفرض هذه الصيغ على الآخرين وهو يفعل ذلك الفعل الشرير بإرادته أي عن قصد من جانبه بذلك، وهو ما من شأنه أن يجعله أسوأ من ذلك الذي يقوم بهذا الفعل بغير إرادة منه، أي من دون أن يقصد ذلك».
مفردة الكذب لا يمكن أن تشير إلى وجود خطأ في الذات فحسب، فلا يمكن أن يعد كل قول خاطئ كذباً بحد ذاته. للكذب نوع خاص من التزييف الناتج عن ارادة الخداع بهدف التضليل. إنه جزء من تفاصيل ترويج الأكذوبة حتى تصبح حقيقة فيما بعد، ويتحكم التكرار في توجه الإرادة لتبديل الحقائق المعمول عليها مسبقا.
في أي وقت، يتوقف الحكم على القول أو الحديث بالكذب على البناء الصوري لوجود هدف ومسعى ودلالاته الأخلاقية التي تركز على خطأ متضمّن لنية شخص كذاب يحاول نقض الصدق وتزييفه عن قصد، إنه يحمل الوجه الآخر للحقيقة بغية تنشيط النية الخداعية الموجودة في إرادته.  وحتى يتفاعل الكذب ويأخذ مجراه لا بد من توافر الدلالات الزائفة التي تشير إلى أن الكذاب يُظهر بخلاف ما يُبطن، وكذلك توافر عنصر نية الخداع التي تتوقف على إنجاز الخدعة، أقصد خروج القول الكامن في ذهن الكذاب إلى حيز الفعل الخداعي وتطبيقه. وأما القول أو الحديث الذي قد ينطق بالخطأ أو عن جهل بحقيقته فهو ليس من الكذب، ولا يمكن اعتباره كذبة بالمطلق، لغياب عنصر النية في الخداع، لأنه لم يكن هناك بالضرورة - زَيف - يعرِّف نفسه بما لا يكونه لينفي ويشطب ما يجب أن يكون.
 ما يجذبني الاستعانة بمفهوم - جاك دريدا- عن الكذب الذي ينبغي أن يكون له أفعال قصدية تشي بالقول الذي هو حيز التطبيق الإرادي لتزييف الحقائق، «الكذب ليس مجرد حالة أو حدث بالمعنى الدقيق وإنما بالأحرى هو صورة لفعل القصدي، الأمر الذي يقودنا إلى القول بأنه لا وجود لما يسمى بالكذب وإنما هناك قول أو معنى يرتبط بفعل القول والذي نسميه بالكذب».
وربّما من أخطر صور الكذب تلك التي يحتفي بها الواقع السياسي، إذ تزداد مسوِّغات استخدام الحقيقة كأداة فعلية للتضليل والخداع، ويعمد –لا على الحصر- السياسي إلى إلقاء خطابات تتضمن الحقيقة بنية الالتفاف على رعاياه، توازيه معرفة أو فهم بالحقيقة المعلنة، إنها اداة اساسية لتحريك نية الخداع وخروج إرادته إلى حيز القول الكاذب، كذلك تحريك فعل التعبير بقوة، ومهارة إتيان الضباب لتضليل النفس، وهذا من شأنه أن يزرع الثقة بالنفس وكأنه يقول دلالات حقيقية مهمتها تعزيز الإيمان بما يذكره على نحو دائم. 
يمكننا الآن أن نصدقه إذا كانت خطاباته مبنية على الإيمان، أو ربّما لأن الكذب يتكرر حتى فرض وجوده بالتدريج ومن دون تقصي حقيقته. 
 صورة أن يعيش الكثير بحالة من الوهم والتصديق الفارغ الذي لا ينتج منه سوى مساحة بيضاء تمتلئ بالدلالات المزيفة فيما بعد، هي المأساة، لأنها قد تكون الأشد فتكا. 
فإذا لم تكن الإرادة بحسن نية، حتماً ستكون كل خطاباته منزوعة عن الحقيقة التي يتم ضربها لجعل الأكاذيب هي الحقائق الوحيدة وكأنهم مصابون (بالميوثومانيا). وقد يكون الأمر كما أكده -فريدريك نيتشه- عند تحليله للكذب في كتابه (انساني مفرط في انسانيته): «تبرز لدى كل الكاذبين السياسيين ظاهرة فريدة يدونون لها بقوتهم، ففي فعل الخداع نفسه وبكامل استعداداتهم ومن خلال دلالات الصوت وقوة التعبير يحدث أن يثق الكاذبون بأنفسهم، وهذه الثقة هي التي تخاطب المحيطين بهم وتُخضعهم كما لو عن طريق معجزة، ولا بد من عنصر تضليل النفس كي يتمكن هؤلاء من القيام بعملية واسعة النطاق من الخداع والتضليل ذلك أن الناس يؤمنون بحقيقة الشيء الذي يكون موضع إيمان راسخ على نطاق واسع».
مع ذلك، علينا أن نتذكّر أن نية الخداع والإرادة المتجهة للتزييف لطرح صورة ناجحة عن الكذب لا تكفي ما لم يكن هناك خداع ذاتي من شأنه أن يرسم صورة إيجابية عن هذه الذات، تمهيدا لتحريك فعل الخداع، فضلا عن اتجاه الإرادة قبل التزييف إلى تعزيز الثقة بالنفس. 
ويمثل الخداع الذاتي أداة فعالة لتنشيط هدف الكذاب. وقد يؤدي فعل الخداع الناتج عن سوء في النية إلى الارتخاء الأمر الذي من شأنه أن يُضعف اهداف الكذاب، لكن مهارة إرادته تتجه نحو خلق كذبة جديدة تدعم القديمة، وتمنحه القوة لئلا تتزحزح، وكذا هي الحال عند الترويج لها. قد يكون اعتيادنا على ذلك جزءا من مأساتنا أيضا، كما يلمح نيتشه «نادرا ما ينتبه الكذاب إلى العبء الثقيل الذي يلقيه على كاهله، إذ سيلزمه كي يدعم أكذوبته، أن يبتكر عشرين كذْبة أخرى».