الكتابة خارج قوانين الوصايا الزائفة

ثقافة 2020/11/08
...

زعيم نصار
 
إذا كان هناك ثمة شيء جهنمي وملعون 
حقاً في هذا العصر فهو التريث فنياً عند الأشكال. 
انتونان ارتو
هل من الممكن أن نتوصل الى فكرة واضحة عن الشيء الحقيقي من خلال التفكير بنقاط الاختلاف بين الواقع والخيال؟، إن ما تنتجه المخيلة هي اشياء حقيقية، بمعنى أننا نتخيلها فعلاً، ان تكن لدينا فكرة أو حلم. إن التفكير والأحلام هي في ذاتها أشياء حقيقية. لذلك للحلم وجود حقيقي لكونه ظاهرة ذهنية.
إننا في الحياة لا نحزر الشيء الحقيقي، ما نصل اليه في تأملنا هي الفكرة عن الحقيقي التي تقنعنا بما فيه الكفاية كي يكون بإمكاننا ان نجد سلوكنا يسير وفقها، ونقول بإيجاز إننا وصلنا الى الاعتقاد، فإذا قبلنا به سوف ينهي حياتنا قبل الأوان، ينهي سيمفونيتها. الاعتقاد مريح، لكنه بمعنى ما عدو للحقيقة، ذلك لأنه يُخمد التساؤل، وما دام الناس لا يمكنهم إحراز اليقين الكامل في ما يتعلق بأسئلة الحقيقة، فإن الوضع الذهني الملائم للإنسان لا بدّ ان يكون هو تمكنه وقدرته على الخطأ. 
إن كتابة قصائد حديثة عظيمة حصلت من هذا التوجه، محاولة لإيجاد مطابقة أكثر دقة بين الواقع الذي هو خيال، والخيال الذي هو واقع، إن قصيدتي تريد ان تؤكد قابليتها على الخطأ، وعلى عدم قدرتها في الوصول الى الطريق المؤدية الى الحقيقة، ولكنها تستمر بالنظر اتجاه الواقع، انها تهدف الى ان تسرد الأخطاء كما يمكن ان يحكيها الخيال منطقياً بأساليب خيالية على نحو ما.
ربما نجحت في تطهير قصيدتي تماماً من الحقائق واليقينيات، وكان مسعاي هو إيجاد الأخطاء، أو تقصي الأخطاء في الحياة، لأعزز موقفي ان في ذاتي البعيدة رواسب دفينة ترجع الى وجود الخطأ الأول المتكرر في طيّات الحياة.
إن الأخطاء هي التي حولت التجربة الوجودية الى أفعال كينونة، هي التي جعلت الموجود يعيش تجربته على الارض. 
مرّت سبعون سنة على أول قصيدة كتبها الرواد الأوائل محاولة منهم لكتابة قصيدة عربية جديدة، ومرّت سبعون سنة ونحن نتنابز بالأشكال الشعرية وجدلها العقيم، القصيدة العمودية، افضل من قصيدة التفعيلة، وقصيدة التفعيلة افضل من القصيدة الحرة، والقصيدة الحرة أفضل من قصيدة النثر، والنص المفتوح آخر الفتوحات.
انشغلنا كثيراً بهذه الضفاف، غافلين عن عمق مائها ونوعه، غافلين عن حياتنا التي أسدلنا عليها الظلام حتى التهمتنا واحداً واحداً، انشغلنا بكتابة القصائد الاخوانية والهجائية والمناسباتية، وبقينا نطبطب على ظهور بعضنا كذباً ومجاملات فارغة مقززة، أصبحنا شعراء أغراض تؤطرنا البلاغة القديمة، فلفـّنا ذيل وصاياها الطويل، وخوّمت اجنحتنا لثقل الغبار المتراكم عليها، غبار الذاكرة بصورها الشعرية، وبيت شعرها الوحيد المقدس، والسلسلة الذهبية من توصيات النقاد الذين لم يحترفوا الطيران، توصياتهم بالرمز والاستعارة، والوضوح والغموض، والاسطورة والتاريخ، الايقاع والوزن والموسيقى والمضمون والمحسوس واللامرئي، والواضح والمجهول، سلسلة مرعبة تخطط لنا خرائط الرحلة، وقوالب للنبع، ومجرى للقوارب.
كتبنا المعميات والتجريدات والمفارقات ودوّنا الأوهام، غصنا في المجاهيل والأبراج والطلاسم وركضنا لاهثين بين القواميس نلمـّع الصخور والوعول والايائل ومفردات غريبة ليس لها غرام أو انسجام مع حياتنا المهددة بالحروب والكوارث. مفردات لم نصغ لها طيلة وجودنا في منزل اللغة، جلونا البرق والرماد والمطر والغيوم والسرخس والدبور حتى اصبحت هذه الكلمات مقدسة، لا يمكن ان نفلت من سلطانها، وكتبت علينا ان نعبـّر بها عن لا شيء، نتكلم بها وكأننا نعيش في غابات الأمازون، ندوّن فراغاً مجملاً تجميلاً بلا معنى، بدعوى ارتياد المجاهيل، واكتشاف الفرائد حتى اصبحنا كهاناً نرجسيين، ابطالاً، وفرسان، منفيين، ومطاردين، غرباء ومنقذين، لا مواضيع عندنا خارج ذواتنا المزنجرة بصدأ الرموز والحدوس ولا ننطق الا بالأسرار الكبرى، ولا نتنبأ الا بالكليات، صنعنا قصائد عالية الاسوار. أنبياء مزيفون، نخبيون، مناقبيون، غنوصيون، ادعاءاتنا الرسولية انقلبت علينا وانكشف كل زائف بانهيار الثقافة العراقية التي انبنت على الانوار الوهمية والغيبية، كأننا كنا نعيش في عزلة عن واقع يحكمنا موضوعياً، ندفن رؤوسنا في الرمال خوفاً من النظر الى الكارثة، اندفعنا في طريق خرائطنا ورسالتها الكهنوتية التي انقضّت على حياتنا التي نسيناها تغتسل بالكارثة.
حياتنا الواقعية التي نعرفها عن قرب بتاريخها السياسي الذي سبب كل هذه المحن والكوارث، ودمر الانسان الصغير في اعماقنا، الانسان المتعب بسبب العمل واللهاث وراء لقمة العيش، انساننا الذي سحقته الحروب والسجون والجوع، وباع كتبه وقمصانه، لكي يأكل رغيف خبزه بشرف، مات فينا انسان الحياة العادية، انسان الغرف الضيقة، وفوانيس العتمة، ودخان قناني النفط التي تضيء لنا زوايا بيتنا الصغير،، انسان الرصيف والمقهى، انسان الحياة بنشاطها الجاري كنهري دجلة والفرات، انسان اللغة البسيطة والأكثر حركة على افواه الناس.
ماذا فعلنا كل هذه السنوات؟ حتى اننا لم نعرف ان الكارثة ستحلّ، وحلـّت ولم نعرف. 
القصيدة العربية أصبحت الآن قوية قوة كبيرة، نابضة بالحياة، وقد اصبحت من الليونة بحيث نراها مستعدة لأي تغيير جذري، بلغت حدا من التطرف يمكنها ان تستوعب التجديد الانقلابي المرتقب، نحن بحاجة لصنف من القصائد الانقلابية. أو بحاجة لشعراء انقلابيين يقومون بتأسيس طريق جديدة متطرفة في الكتابة الشعرية، يحاولون التغلب على العوائق لتغيير الشعر لزمنهم وللزمن المقبل. هل علينا أن ننتظر شعراء انقلابيين عاطلين في اقصى رقة، يجيئون بتجارب منفردة ناجحة؟ هل من الممكن ان نفهم بعد الآن العلاقة بين الواقع وبين الكلمات والعالم ونصنف قصائده على أنها فراديس قابلة للخطأ في الواقع وفي الخيال، وسيكون من المناسب عندها أن ننسى كل ما قرأناه وتعلـّمناه، ونترك أمرنا للحياة التي نغتسل بها كلّ يوم لتكتبنا، محتضنين الكتابة، الكتابة خارج كل قوانين النبوءات الزائفة، خارج قوانين السرب والسراب.