نهى الصراف
ظهرت متحمسة، قوية مع لمسة من خفة ظل، وهي تطلق سيل شتائمها وشلال كلماتها، بعد أنْ طلبت من جمهور المتسوقين في المتجر الكبير الذي تعمل فيه الإصغاء لها للحظات قصيرة. خرجت الكلمات سريعة صاعقة وواضحة من فمها الغاضب، كقذائف مدفع متعجل يحاول التخلص من إطلاقاته الأخيرة قبل أنْ تحين ساعة نهاية الحرب؛ ساعة الصفر أو ما بعد الصفر، لا فرق.
شتمت رئيسها في العمل، رأس السلطة، مدراء الأقسام، أهانت زميلاتها المتكبرات، مدير الحسابات العنصري، رئيس قسم الموارد البشرية الذي لا يفوت فرصة ليرمي إليها بنظرة احتقار بسبب فقرها، شتمت حتى بعض موظفات الكاشير المغرورات بسبب جمال ملامحهن. عانت الفتاة الغاضبة لأشهر وربما منذ اليوم الأول لالتحاقها بالعمل، من تسلط المدير وعنصريَّة الزملاء وتبجح الزميلات وتعالي رئيسة القسم التي تشرف على توبيخها والحط من شأنها بمناسبة وغير مناسبة، فتعاملها كصبية صغيرة تستحق التأديب من وجهة نظرها كلما اقترفت هفوة سخيفة. في الفيديو الشخصي الذي سّجل لحظاتها الأخيرة في العمل، كانت الفتاة الأميركيَّة في طريقها لأنْ تخسر عملها الذي نجحت في الحصول عليه قبل عام فقط وحاولت الحفاظ عليه من دون جدوى، وهي تعرف تماماً بأنَّ العثور على عملٍ بديلٍ في هذا التوقيت الوبائي بالذات يشبه البحث عن ابرة في كومة قش بحجم العالم. سيتراكم القش حتى يسد عليها نوافذ الأمل، ورغم ذلك لم تتردد لحظة واحدة في التعبير عن شعور بالقهر طالما كتمته شعور يمكن أنْ يكون حمله قد أثقل كتفيها فلم تستطع الاستمرار أكثر، تركته هكذا يسقط ببساطة ينزلق عبر ظهرها المتقوس وبعد أنْ تخلصت منه، عدّلت من هيئتها ثم استأنفت المسير في طريق لا تدري نهايته.
كم من الناس من يمتلك مثل شجاعة هذه الفتاة الشابة؟ وكم من موظف مقهور قضى حياته محني الظهر بسبب الفقر وقلّة الكرامة ولم تسنح له الفرصة ذاتها لتهشيم الجدران الزجاجيَّة التي تفصله عن تعالي مرؤوسيه في العمل والتخلص من صخرة الهم التي جثمت على قلبه سنوات طويلة، هي سنوات خدمته الفعليَّة في العمل الذي قضى على إنسانيه وأفسد روحه؟
هل هي لقمة العيش، تلك التعويذة الساحرة التي تعلق في قلوب الفقراء مثل كلابات الصيد التي تتعلق بتلابيب روح ضحاياها من الأسماك، أم انها لا مبالاة بعض الناس واعتيادهم على الانقياد للآخرين من هم أقوى وأعلى شأناً بحكم العرف الاجتماعي المقيت؟
العمل في وظيفة مرهقة للأعصاب أو عمل شاق فيه ما فيه من المعاناة النفسية، يشبه كثيراً ارتداء حذاء ضيق يدمي أصابع القدم ويجرح زواياها، يمضي بعض الناس سنوات عمرهم وهم يكابرون على أمل أنْ يتسع الحذاء فيصبح على مقاسهم لكنَّ الأيام تمضي وطريق حياتهم يزداد وعورة كلما تابعوا سيرهم، فلا الطريق ينتهي ولا الآلام تخفت.