د. مزهر جاسم الساعدي
يبدو أن المشكل الأكبر للصراع الخفي في المشهد العراقي، يكمن في سياسة الدول الراعية للعملية السياسية، لاسيما منها الاقليمية، اذ اعتمدت ولا تزال ستراتيجية التقريب لبعض الجماعات الدينية والقومية في مرحلة معينة والايحاء لها بأهمية العمل معها مستقبلا، ومن ثم الانتقال الى جماعات أخرى من القوميات والمذاهب نفسها، والعمل معها على انجاز غايات وأهداف تختلف كليا عما فعلته مع الجماعة الأولى.
وكان لهذا الصراع (المؤطر سياسيا) ثمن غالٍ تمثل في سرقات بمليارات الدولارات ذهبت الى جيوب الفاسدين، وأنهاك لخزينة الدولة حتى صارت خاوية لا تستطيع تسديد رواتب موظفيها، وبنى تحتية مدمرة في أغلب محافظاته، فضلا عن سيل من الدماء البريئة التي سفكت قربانا لبقاء العديد من اللاعبين السياسيين، وبالنتيجة خلف أوضاعا اجتماعية وسياسية مضطربة ومستنفرة على
الدوام.
وبهذا تكون الأطراف العراقية المتناحرة قدمت خدمات كبيرة وجليلة بسخاء الى حكام تلك الدول حين صنعت لهم المبرر بالحديث العلني عن ضرورة التنازل عن الديمقراطية مقابل الامن، والنهوض التنموي، فضلا عن طي صفحة 11 أيلول وأهدافها الاميركية المعلنة في ضرورة تغيير بعض الأنظمة بداعي مكافحة الإرهاب بأقل الخسائر، واختيار العديد من شعوب المنطقة ونخبها خيار حكامها، بعد أن أخذت العبرة والدرس من الوضع العراقي، على الرغم من المطالبة الخجولة بين الحين والآخر بتوفير الحد الأدنى من الحريات الشخصية والعامة.
من هنا أطلقت العديد من الدول العنان للمؤسسات الاستخباراتية والإعلامية والدبلوماسية للتثقيف عن أهمية مشروع إحلال السلام، وتجنيب المنطقة المزيد من الازمات وخوض الصراعات، وهرولت العديد منها نحو تحقيق تلك الغاية بأسرع مما كان متوقعا.
لقد حققت الأطراف الخارجية الكثير من الأهداف المراد تنفيذها في العراق في وقت قياسي لم تكن قد وضعته في اجندتها بفضل العمل المتسارع للجماعات السياسية، لذلك فهي تسعى هذه المرة الى لملمة أوراقها ومراجعة حساباتها، فمنهم من يرى ضرورة انهاء هذا الملف وتركه للذين انغمسوا فيه بكل ما اوتوا من قوة ونفذوا (عن علم ودراية او من غير علم) ما كان يخطط لهم في الدهاليز المظلمة، ومنهم من يرى تغيير وجوه الفاعلين السياسيين بكون المرحلة المقبلة لا تتسع للعديد منهم كما فعلت مع غيرهم في المرات السابقة، لاسيما في ظل الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها بعض مناطق العراق، ومنهم من يرى أن مجرد ارتفاع الأصوات بوتيرة متسارعة للداعين الى الاقلمة هي كفيلة في تحقيق ما كان يرغب بالوصول اليه والانسحاب من الساحة
تدريجيا.
إنَّ القناعة بدأت تتضح ملامحها عند الدول الإقليمية وغيرها، بترك العراق لما هو فيه من أزمات، فهي كافية لوحدها أن تحيله الى دولة فاشلة لا تستطيع النهوض على المدى القريب في ظل التنامي للإمبراطوريات المالية الضخمة، والصعود المفاجئ للوجوه الجديدة، التي تمرست بشكل لافت على إدارة الازمات وتأجيجها كلما تطلب الامر ذلك من دون تدخل مباشر
منها.
وأزعم أن النخب السياسية والمجتمعية وخلال السنوات المقبلة ستجد نفسها امام استحقاق مرحلة ما يسمى (فراغ التحول) التي ستكون أبرز
ملامحها:
الأول: تغيير بعض اللاعبين الذين كان لهم الحضور الدائم في المشهد السياسي واقناعهم بضرورة الانسحاب التدريجي من الحياة السياسية مع ضمان عدم الملاحقة القضائية لما اقترفوه بحق
الشعب.
الثاني: العمل الحثيث والمتسارع على تسويق الوجوه الجديدة التي سيكون لها النصيب الاوفر في المرحلة المقبلة بما يؤمن لهم القبول المجتمعي
النسبي.
الثالث: الإسراع في تقليص المدة الزمنية التي ستطل من خلالها تلك الوجوه لإملاء الفراغ المحتمل.
وبين هذا وذاك سيكون الصراع في العراق صراعا مختلفا عما انتجته مرحلة 11 أيلول، الى مرحلة ما بعد ارتداداتها، ولن يكون فيه حلم النهوض التنموي قريبا
بالتأكيد.