الكتابة.. فعل ثقافي واقعي

ثقافة 2020/11/09
...

   أ.د. باسم الأعسم
تقترن الكتابة شرطياً بوصفها فعلاً ثقافياً وحراكاً معرفياً بمفاهيم السمو والرفعة والمكابدة؛ لأنها خلاصة للضمير المتقد المنتج لسيل عارم من المضامين الإنسانية ذات الصلة بهدفها الرئيس المتمثل بالقارئ المستقبل لمضمونها فتتحقق – عندئذٍ – جدلية العلاقة بين الكتابة والقراءة عبر القارئ الذي يكشف عظمة الكتابة المرتبطة بالقراءة كالجسد وظله؛ لذلك فإن الكتابة تستلزم الدقة والأمانة والرصانة على المستويات الاسلوبية والدلالية لأنها عتبة الاستقبال والاستيعاب أو الفهم.
ويمكن للكتابة أن تتحقق مراميها بسير من دون أن تحتكم الى بناءات هيكلية ذات طابع بنيوي محكم يعزز وجودها اللغوي والفني والأدبي ويوسع نطاق تأثيرها الايجابي على الصعد الدلالية والفنية والتأويلية.
ولغناها المضموني وثراء أسلوبها وشساعة مجازاتها وجمال صورها ومتانة بناءاتها فقد انمازت لغة الكتب السماوية والخطب والاحاديث والملاحم او النصوص المسرحية الإغريقية والشكسبيرية وقصائد الشعر العربي  حتى عدت ذات مناعة ضد صدأ الايام والسنين.
ولذلك لا تخلد سوى الكتابة الابداعية المتحققة بفعل الكد الذهني المتوقد المشفوع بالبلاغة الآسرة والصور المبتكرة والمفاهيم المعبرة والرؤى المؤثرة والمضامين المجسدة لطبيعة التجربة الحياتية والإبداعية للكاتب وما يختزنه من ثقافة ووعي وذائقة وخبرة في ميدان الكتابة، مما يستوجب الأمر مراجعة النفس والأسلوب واخضاعهما الى الضبط والمحاججة العقلية والعملية.
بهذا الصدد، يقول: الروائي (غابريل ماركيز) الحائز جائزة نوبل (إني أخضع نفسي لانضباط بشع كي أنجز كتابة صفحة واحدة من بعد ثماني ساعات من العمل.. إنني أناضل نضالاً جسدياً مع كل كلمة).
ولأنه كذلك فقد اقترنت الواقعية السحرية بأسلوبه، وأدبه الروائي الساحر، وهذا شأن أساطين الادباء والكتاب الذين راهنوا على خلودهم الادبي من خلال الكتابة في ميادينها المتنوعة، وكل في ميدان يكتبون.
وحتى على صعيد المقالة الادبية فثمة من يكتب بعقلية المفكر، وروحية المبدع، ودافعية النجم، وذائقة الفنان، فتجيء المقالة وكأنها سبيكة لغوية مذهّبة، وهنا، نستذكر الادباء والكتاب الكبار (طه حسين، محمد عبده، طه الراوي، علي جواد طاهر، سعيد عدنان، رفاعة الطهطاوي، مدني صالح) وسواهم كثير.
أنا لا أنظر الى الكتابة بوصفها فعلاً مثالياً او يوتيوبياً، على حد قول (رولان بارت) او كونها نسقاً سيمولوجياً حسب (دريدا)، وانما هي فعل ثقافي واقعي، بأبعاده الحضارية والمعرفية، يسهم الى حد كبير في رسم ملامح هوية الكاتب، ويديم التواصل عبر المنجزات الادبية والفنية بما يصعد الحراك الثقافي والابداعي كنسق سيسيوثقافي مهيمن في المجتمع الانساني كله. 
وذلك، فإن الكتابة تستوجب توفر الموهبة الخلاقة، والاسلوب المتين المعضد بالهم الثقافي والخطاب المعرفي المتسامي، وبخلاف ذلك، ينحدر منسوب الكتابة الى مواضع لا تحمد نتائجها، ويكون من المحال على الكاتب أن يتفرد، مالم يوقن بقداسة الكلمة وحرمة الفعل الكتابي فالكتابة ضمير الكاتب، وطالما دفع بعض الكتاب حياتهم ثمناً لضمائرهم الحية. 
إن الكتابة في أخص معانيها، تمثل الفعل المعرفي الدال على الذات المبدعة، ومن ثم الاجابة الناتجة عن أسئلة الوجود الاشكالية، وليست محض ترف، او تزويق لفظي، لذا فإن ابتكار الكتابة كفعل تدويني في بادئ الامر، يعد حدثاً كونياً فاصلاً، يشير الى تفوق العقل الانساني، وقدرته على التجاوز والحجاج. 
ومادامت الكتابة استنفاراً لقوى العقل والوجدان، فإنها من أمتع ابتكارات الانسان، فاقترنت بوجوده المعنوي كقيمة عليا، ودلت عليه كذات مبدعة.
إن الكتابة مسؤولية أخلاقية وفكرية، لأنها تتصل بموقف الكاتب وفلسفته، فتعينه على البوح الذاتي وممارسة الحرية، غير أنها تقتضي الالتزام، ومنه احترام الاخر، مهما تباينت المواقف واختلفت الافكار، تجسيداً للبعد الانساني في الكتابة، بعدها نسقاً اجتماعياً وتداولياً ووسيطاً تواصلياً؛ للتأكيد على انها وسيط تواصلي يعمق التلاقح الثقافي، ويديم الحوار الحضاري الخلاق، وذلك هو البعد الانساني للكتابة، وكما وصفت (فورنس دوريل) الكتابة بأنها الطريقة المثلى لنصبح أكثر شعوراً بإنسانيتنا.