مظلات ومطر

ثقافة 2020/11/09
...

جبار النجدي
ثمة أسباب كافية للاعتقاد بأن المطر هو من أقدم الممتلكات الشخصية للطبيعة، فلا ابتداء له من جهة الزمان وبمعونته تستجمع الارض قدراتها على الانبات مانحة الكائنات أسباب وجودها. لا يخلو المطر من ضبابية فاتنة ولم أره يوما إلا كائنا عيانيا جذابا. 
أدين للمطر بأول معرفة لي بفنون الاداء الصوتي حيث الخرير الذي لا ينقطع والنشيج المؤتلف من الاصوات المشفوعة بمناخ احتفالي معمد بالمياه طالما رأيت الاشجار تقف تحته لتحتفل عارية.
يلهمنا المطر عبر نبرات زخاته فكرة فريدة عن الماء حينما يكون ناطقا، فليس بوسع ذاكراتنا مفارقة تلك الاشراقات من العواطف لحظة يقرع سطوح بيوتنا بحشد متشابك من الاصوات مستعينا بقدرته على محادثة الاشياء وتقويلها والتي تكاد تضعه في مرتبة الكائن الحي، ناهيك عن المشاعر التي يولدها في لحظة ما ويتشاطرها كثيرون، فعندما يتبدل مزاج السماء في لحظات قلائل تستأثر بنظرنا حباته التي تراقص الريح والتي تكون ممزوجة أحيانا بكرات البرد الشديدة البياض، إننا نتوارث الكثير من الاشياء عبر المطر وبإمكان كل منا رؤية بريقه المتقد في ارجاء المعمورة المترافق مع عالمية الغيمة وهي تعيد تجارب المطر في كل مكان من المعمورة فوق المدن والجبال والصحارى والمحيطات  ومجاهل الاصقاع البعيدة. 
يوفر المطر فرصا فريدة ونادرة للالتقاء بشريك مجهول قد يقع في طرف من بلاد أخرى، ويتمتع بفضاءات مطرية مماثلة ربما يجعله المطر ينعم بمشاهدة كائنات العالم بأسرها ويتيح في الوقت ذاته العودة السعيدة الى مباهج الطفولة في فهم الظواهر الطقسية فيشدنا خاطر مبهم الى غيمة ماطرة تستحضر بين ثناياها أعجوبة التجاور الفطري لألوان قوس قزح.
ينهار المطر من السماء فيحادثنا بألفاظه المائية ثم ما ان تلبث الغيمة ان تهوى على الارض مفرغة ذاتها من أجل غنى الآخرين.
مروضة قسوة الجفاف ومتيحة الفرصة لانعقاد العلاقات الملائمة 
للإنبات.
ما إن يبدأ المطر بالتصبب حتى يصبح أكثر الموجودات حضورا، إنه يربك الطبيعة ويتسلق كائناتها ثم تتضاءل المدن خلف عتمة مراياه وتحيد عن صورتها المألوفة تختفي ثم فجأة تعاود الظهور في اللحظة التي تضاء فيها قبة السماء وتكشف عن سعتها في ضوء البرق الكاشف لوجه السماء بلمح خاطف.
على هذا النحو تشتد حاجتنا الى المطر فلا نرى في الصحو إلا شكلا فارغا بمقابل البيان الطقسي ليوم ماطر مليء بالكتل المائية الهابطة والمحملة بأسباب الحياة.
تفصح مخيلة ورؤى الكاتب محمد خضير عن التقاط أربعة مشاهد مطرية تشير الى الاتصال بين بعض أمكنة العالم تفصلها أصقاع وبحار ومحيطات وأزمنة لكن ثمة مذياعا وضع قرب النار.
مذياع وأغنية عن الامطار التي تهطل على شوارع (كاراكاس) وفي ذات الوقت على السفن الراسية في (باب المندب) وعلى أسلحة الثوار في مشارف العاصمة الكمبودية (فنوم بنه) وعلى المدرعات المعطلة في سيناء. 
إن المعنى الأكثر سرية لثراء صورة المطر تكمن في قدرته على اقامة الاتصال بين الناس بموجب ايقاظ غريزة الاحتماء الجماعي، إذ يصبح التقارب التام بينهم ارضاءً لحاجات جسمانية يثيرها المطر، اذ يتبادل حاملو المظلات المتنقلة مشاعر نادرة تبعثها حالة التخفي تحت مظلاتهم.. 
يظهر الكمأ بوصفه بياضا يبزغ من سواد الارض، لكن ليس على هدي الصدفة وحدها، فالغيمة الربيعية الجوالة يضعها الخيال الفطري على مفترق طرق ويتوزع مصيرها بين خيارات ثلاثة (البرق/ الرعد/ الكمأ).
وأجواء معبأة بدمدمات رعدية مفرطة تهتز لها الارض وتتيح للكمأ ان يخرج منها مشرئب الأعناق، إن ثمرة الكمأ هي نتاج زمن وسيط يقع بين زمنين متضاربين أحدهما صمت مطبق يسبق ذروة الرعد ويرجئه الى حين والآخر يعقبه ويدفع به الى العلن.
في البرية يعرض المطر نفسه بصورة حية مالئا أرجاء المكان، تظهر الغيوم في البراري بشكل متفرق ثم ما تفتأ أن تحتضن السماء بأكملها لتتحول بعد حين الى فيض مائي منهمر مليء بالأحداث والصور فيلوح على مدى البصر ظلام البرية لكنه ينشق فجأة بفعل سطوع البرق وسرعان ما يعود الى الالتحام. 
إن البادية بمقدورها أن توافينا بشيء من حكمة البداوة الطقسية الموصولة بأشخاص يمكنهم استكشاف ما تخبئه الغيوم من نوايا مطرية وتشخيصها بالنظر اليها حسب، فهي اما امطار (الوسمي) او (الطش والرش) او (الديمة) او (الودق) او (الغيث المنهمر) ويسمى المطر الرحيم يصيب الارض فيخصبها فتستدبره الريح وتسوقه حيث ما تشاء الى مواطن 
الكلأ.
يجني المتنقلون في الصحراء ثمار الغيث المتصلة بالنفع لكنهم يعرفون ان المراد بالأمطار عواقبها لا عواجلها، ولا أحد بمقدوره أن يعلم بمقادير ومنازل المطر، لكن المطر في النهاية يوفي الارض حقها فيصيب (اليابس المتهافت) ليجعل الخضرة أسرع اليه، ان الغيوم في البراري يستفرغها العطاء من غيثها لكنها في نهاية الامر تزيح عقدة عجز الارض وتقطع صلتها بالجفاف. 
بوسع متتبعي الأثر تعقب معاني ودلالات حبات المطر التي ترسم اشكالا غريبة على رمال الصحراء من شأنها فك رموز مجهولة للمطر وما تتلقفه الارض من عطاء يجمع في قبضة واحدة خيوط المطر كلها، حيث تنشط ذاكرة الارض وتنتعش بمطر مدرار لا تأخذه هوادة.