هامش آخر للذاكرة

ثقافة 2020/11/09
...

 احمد داخل
 
 
الليل.. الليل يسقط قسرا على أكتاف المدينة، يلوكها ويذروها ليتركها كمستعمرة عافتها جيوش غازية، شوارعها كصلبان بتقاطعاتها الممتدة على مرمى البصر أشبه بشبكة الشواء حسب ما ذكره"جولس تلي"(1).. كنت أسير بمحاذاة تلك الأبنية التي غيرت ملامحها أفواه الدكاكين المتناثرة على جوانب أزقتها، يبتلعُني زقاق ويتقيأنُي آخر، حتى وصلت إحدى البنايات المقصودة أوما إليَّ احدهم لماذا تأخرت؟.. هاك أوراقك أُنجزت وما عليك إلا أن تهُيئ مستلزمات سفرك، فإن المدة ستطول بل أدركت ساعتها أني لن أعود.
الذاكرة تنهش رأسي، خُيل إليَّ أنها ستقطع فروته، وهي تمشي عكس اتجاه السيارة التي أقلتني، وبحركة لاشعورية أومأت إلى السائق أن يقف لأتطلع إلى اللوحات الدالة والممتدة على طول الطريق استوقفتني إحداها تشير إلى" م/ت/م"(2) سحبت جسمي المنهك بكل قوتي، ثم أومأت إلى السائق بالرحيل فور وصولي إلى ذلك الباب الحديدي الكبير، ثمة أشخاص متفرقون كمومياءات لا اعرف من المتكلم منهم فاجأني احدهم كأنه بانتظاري.. اخذ أوراقي..اركض.. اركض والحق بالطابور لتستلم ملابسك..
لم أكن آخر من دخل الطابور فبعد برهة كنت محشورا وسط زحام الآدميين. الذين حفزوا ذاكرتي لاسترجاع ما بقي منها التي ما عادت تسترجع كل الأشياء، لكن الروائح التي تنبعث من"البساطيل" قد أفاقت ذاكرتي المعطوبة. كانت روائح عفنة تزكم الأنوف ظللت ابصق.. ابصق، وهي ترجع إلى الوراء، وأنا اركض.. اركض لألحق بقطار الجنوب الصاعد صوب العاصمة. الحقيبة أنهكتني فهي الأخرى مثقلة بالملابس والكتب رميتها في العربة وبحركة سينمائية قفزت وراءها لأجد لي مكانا وسط أكوام"البساطيل" المحشوة بالأجساد الآدمية، وأصوات شخيرهم تبدأ بآخر صافرة للقطار.. ما بال هذا يصرخ؟
أسأل نفسي وأنا طفل أصرخ لألحق بأمي كي تأخذني معها لزيارة ذلك"المزار"(3).. انظر صوب كل قطار يمر وهو يسحب بعرباته ويلف الليل والنهار هل من أعباء المسافات المضنية التي يقطعها، أم من هموم الناس المثقل
 بها؟
أخيرا حشرت جسدي في مكان ما من إحدى عرباته، وتوسدت حقيبتي. بدأت ابصق بين الحين والآخر حتى جف لعابي من تلك الروائح المنبعثة من"البساطيل" اخرج رأسي من تلك النافذة المكسورة. لا ادري من الذي كسرها؟ هل كسرت للقيء؟..- هوع- أفرغت كل ما في جوفي، لكنها بقيت في رأسي كطنين ذبابة، أمسكت رأسي وأدرتها ثانية، فشعرت بأنفاس البردي الندية الممزوجة بزفرة ماء الهور الذي تتوسده تلك القرى الطينية المسترخية على أنفاسه ترطب ذاكرتي التي بدت تنشط وتسترجع حكايات أبناء الهور.. كحكاية صياد القرية عواد التي رواها أبي يوم شاكس طيور (القطا) فتركت به عاهة مستدامة لان عوادا لم يتخيل أن لهذه الطيور قوة خارقة حينما يداهمها الأعداء.. فعواد حاول أن يصطاد ثمانين زوجا منها في ليلة واحدة حسب ما تناقله أهل القرية، عندما استقبلتها شباكه، فبعد أن جذب حبال الشباك فرت تلك الطيور وبصوت واحد أحدثت صفيرا قويا أرعبته. فقاومها حتى تشققت مؤخرته، وأجلسته على الركب وسط بركة من الدماء.. لان أبي يقول.. إن طيور الهور مسكونة لا يستطيع الإنسان أن يمسكها بسهولة.. وماذا بعد؟ بعدها هرع أخوته الذين كانوا بالقرب منه لنجدته. راعهم مشهد عواد وصلابته، وهو يمسك الشباك بيد لافاً حبالها حول خصره، واليد الأخرى قابضا بها على كوفيته ليضعها تحت نزيف الدم الذي أعياه تماما.. بعدها لفحتني روائح غريبة لأشياء محترقة تنبعث من بين مفازات البيوت الطينية كأنها روث
 محترق.
قال لي أحد القرويين في إحدى سفراتي بأنها تطرد"البق" المتجمع على ظهور الحيوانات.
قلت: مع نفسي لماذا لا نحرق هذا في المدينة؟
قال: لماذا لم تتقدم هل تسلمت بدلتك، نعم.. تقدم إذن والحق بالرهط بعد أن زقني بكلتا يديه في ظهري، وانا اركض.. اركض لألحق بقطار الجنوب فقد عبر محطات كثيرة، ولا أظن أني سألحق به.
إنما ركضت لألحق.. واحد – اثنان- ثلاثة
هيا كرر ورائي واحد- اث..نان.
 
..........
1 - المهندس البلجيكي الذي وضع تصاميم مدينة الناصرية في بداية تأسيسها في العهد العثماني 1869.
2 - مركز تدريب مشاة المثنى، كان يمارس أقسى التدريبات صرامة على  الجنود الجدد.
3 - هو مزار السيد نعمة يقع قرب سكة القطار في منطقة نائية تسمى الكرماشية أقصى جنوب الناصرية.